مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

جمل المحمل في شيكاغو الحلقة الثالثة ..الخواجة جورج في حمام بشتك!

4

 

بقلم: محمد حسن حمادة

قد يهمك ايضاً:

إصابة نجل الفنان الراحل فؤاد المهندس إثر حريق داخل شقة…

مهرجان دبي للكوميديا 2024 يستضيف مجموعة جديدة من نجوم…

بعد وفاة الخديوي توفيق تملك اليأس  (جورج بنجالو) واعتقد أن حلمه أصبح في مهب الريح ولا مناص أمامه إلا إعادة حساباته من جديد، تعود (جورج) عندما يصل لهذه الحالة أن يعمل بنصيحة صديقه مفتش الآثار (ماكس هيرز) الذي أشار عليه بالذهاب إلى أحد حمامات القاهرة القديمة، فهذه الحمامات هي أكثر الأماكن راحة في مصر، حيث تجلب الهدوء والراحة والطمأنينة والاسترخاء وتساعد على الاستشفاء والتفكير السليم ومنذ حل (جورج) إلى القاهرة صارت إحدى عاداته الروتينية التي يواظب عليها الذهاب إلى حمام (بشتك) بسوق السلاح بالدرب الأحمر مرتين على الأقل في الأسبوع للاستحمام والاستجمام ومعرفة أخبار القاهرة، فقد كان الرجال أثناء الاستحمام يثرثرون ويتناقشون ويتبادلون الأخبار والمعلومات ويتحدثون في الشئون العامة والخاصة، حتى اتفاقات الزواج والمصاهرة تتم في حمامات مصر، ولا يعرف بشفاء المريض إلا اذا خرج وذهب إلى الحمام، بل إن بعضهم كان يعقد الصفقات التجارية في حمامات القاهرة، هذه المدينة العجيبة الغريبة الأطوار التي كانت مسرحا كبيرا جرت فيها وقائع وفصول (ألف ليلة وليلة) كان حمام (بشتك) تحديدا بالنسبة (لجورج) بمثابة العصا السحرية التي يستحضرها للعودة إلى هذا الزمان الذي كانت فيه القاهرة منذ ألف عام سيدة العالم بلا منازع ولم يتبق من هذه العظمة والسيادة إلا بعض أطلال من آثار وبقايا جنسيات متعددة من شوام وأفارقة ومغاربة وأرمن وأتراك وأوروبيين ولهجات شتى، وإرث من رونق قديم للقاهرة العجوز التي شاخت وفي طريقها للاحتضار، لكنها مازالت تقاوم وترفض شكليا أن تكون مدينة من الدرجة الثانية فتعترض على طريقتها الخاصة ببعض الضجيج والصخب والنشاط البشري، ماتت قاهرة (ألف ليلة وليلة) ولم يبق منها إلا مسحة أثر قد تلحظه في أسواقها أو تكتشفه في جمال وجوه وعيون نسائها الذي يقفز من خارج حدود (اليشمك) أو من أجسادهن التي تتفجر بالأنوثة وتطل خصوبتها رغما عنهن من (الملاية اللف) التي تضيق عند الخاسرة فيبدو عود الجسد وكأنه منحوت، أو عندما تتجول في شوارع القاهرة وتعثر على خيال الظل والأراجوز والمراجيح، أو يصادفك الحظ وتلتقي بمجموعة الحواة والمشعوذين والمهرجين والسحرة وملاعبي القرود والأفاعي والأقزام ونافخي النار وألعاب القوة ومرقصي العضلات، وراكبي الخيول الراقصة، هؤلاء الذين سكنوا الموالد، وعاشوا يحلمون بزفة الخليفة، غارقون بين ثنايا المدائح وحلقات الذكر، وسط جوقة الدراويش، أصحاب البيارق والملابس الخضراء الزاهية الذين  يحملون السيوف الخشبية، التي عفا عليها الزمن والتي تُعبر بحق عن صورة واقعية مجسمة لهم ولزمانهم الذي انتهى، ولكنهم مصرون على استدعائه بنفس أدوات الماضي، ليكونوا خارج نطارق الزمن، وفي الليل تهدأ القاهرة لتصدح بأمسيات الأغاني والموسيقي، وحفلات الزار، وأماكن الغوازى وأوكار بنات الليل وخاصة في حي الأزبكية، وعلى ضفاف نهر النيل العظيم تسبح المراكب والقوارب، وعلى إيقاع الدفوف تشعر أن النيل يرقص طربا وفرحا على وقع هذه الأنغام،

كان من الصعب دخول (جورج) حمامات القاهرة نظرا لاختلاف ديانته، لكن بعدما توسط له صديقه محروس السقا لدى صاحب حمام (بشتك) رحب به على الفور وخاصة أن (جورج) أجزل له العطاء، كانت المرة الأولى التي دخل فيها (جورج) هذا الحمام بمثابة تجربة خيالية مبهرة بالنسبة له فلطالما استقبلت قاعات حمام (بشتك) سلاطين وملوكا وأمراء، ووزراء، وسفراء، وقادة وحرائر وجاريات، ومومسات، وفقراء وأثرياء، كم حيكت بين هذا الجدران دسائس ومؤامرات واغتيالات وسالت دماء، أما في حجراته المغلقة فلا صوت يعلو فوق صوت السائل الأبيض الذي كان يتدفق بغزارة ليشهد على ليالي القاهرة الحمراء، فبين كل حجر وحجر تسكن أسرار وألغاز، لو نطقت جدران هذا الحمام ستحكي عن سطور لم تدون في كتب التاريخ، كالعادة دخل (جورج) الحمام وهو يتأمل هندسته المعمارية، أعجب بقاعة الحمام الرئيسية التي تتوسط الحمام فقد كانت تغطي المساحة الأكبر منه، مخصصة لخلع الملابس تسمى (المسلخ) تغطيها قبة ذات أعمدة تحيط بها ثلاث قاعات أخرى، القاعة الأولى بها مغطس للماء البارد والقاعة الثانية بها مغطس للماء الدافئ والثالثة تحوي مغطس الماء الساخن،  سقف هذه القاعات على شكل أقبية نصف دائرية تحوي فتحات صغيرة للتهوية والإنارة، دخل جورج الحجرة المكسوة بالرخام ذات المصاطب الرخامية التي يستريح عليها الرجال، كانت الحجرة مفروشة بالوسائد، في جو تتصاعد فيه أبخرة الدخان المعطرة بالبخور والمسك والعنبر، ثم بعد ذلك دخل الغرفة الدافئة، ناوله (الحمامي) بشكيرا أبيض كبيرا ليلف به جسده حتى الركبتين، ثم أمر جورج بالانتظار حتى يحين دوره ليدخل غرفة (بيت الحرارة) وهي غرفة أشد سخونة من سابقتها مكونة من أربعة أحواض من الحجر تتوسطها (فسقية) كبيرة تضخ مياها ساخنة بها مغطس كبير، زجاجها ملون مريح للأعصاب ومثير للخيال، نزل جورج المغطس المليء بالماء الساخن الذي ينعش الجسد، كانت نشوته فوق الوصف من هذا الجو الساحر وخاصة عندما قام (المكيساتي) بتدليك جسمه، بعدما صب عليه أفخر أنواع الزيوت، ثم غسله بماء الورد، وبعدها جفف (جورج) جسده بالمنشفة التي كان يلتحف بها ليستعد لمرحلة أخرى من الترف والمتعة والنظافة، مرحلة قص شعر الرأس وإزالة الشعر الزائد في الوجه والجسد، ينظر (جورج) يمينا ويسارا ويجول ببصره في كل ناحية من أروقة الحمام عله يشاهد المواعدات الغرامية التي كانت تحدث بحمامات مصر القديمة، كما قرأ في كتاب (ألف ليلة وليلة) ولكنه يفاجأ بزفة عريس يدخل بصحبة مجموعة من الرجال كعادة المصريين قبل حفلات الزفاف، يتوجه العروسان إلى الحمام، العروس تتوجه لحمام السيدات والعريس لحمام الرجال للاستحمام واستكمال الزينة، لكن المشهد الأجمل الذي راق (لجورج) عندما خرج العريس من الحمام وأصدقاؤه وأقاربه ملتفين حوله يغنون ويرقصون ويلعبون بالعصا والنبوت على إيقاع الطبلة والمزمار، ينتظره في الخارج حصان أبيض مزين بالحلي ومسرج بالقماش المزركش بالألوان الزاهية والزينة التي تخطف الأبصار، امتطاه العريس ليبدأ الحصان بالرقص على نغمات المزمار، ثم توجه العريس ومن معه للجانب الآخر من الحمام الذي يعرف باسم (مصطفي كتخدا) وهو الجناح المخصص للسيدات حتى يظفر بعروسته حيث نزل من على حصانه وتأبطها بين ذراعيه ثم رفعها على ظهر الحصان ثم ركب هو بالمقدمة وهي خلفه، لتخترق الزفة شوارع القاهرة، خلى الحمام تقريبا من المستحمين، وبعد أن ارتدي (جورج) ملابسه لمغادرة الحمام جاء إليه (المكيساتي): عفوا يا خواجة تعالى معايا من فضلك”. إلى أين؟ لم ينبث (المكيساتي) ببنت شفة فقط أشار له بيده أي توجه لهذه الحجرة الجانبية، فتح له (المكيساتي) الحجرة، دخل (جورج) فأغلق (المكيساتي) الحجرة ليجد أمامه

سيدة ترتدي البشكير الأبيض نصفها الأعلى عاريا تماما، جسدها أبيض تشوبه حمرة، شعرها أصفر طويل منسدل على كتفها، وبمجرد أن استدارت السيدة كاد (جورج) يغشى عليه من وقع المفاجأة فلم تكن إلا السيدة (صوفيا) الإيطالية، ظل (جورج) ردحا من الوقت في سكون وصمت تامين من هول الصدمة لايعرف ماذا يقول ولم يقطع هذا الصمت إلا صوت السيدة صوفيا: لاتنزعج ياسيدي فأنا أعلم أنك لست من هؤلاء الرجال ولم ألتق بك هنا لأراودك عن نفسك، دعوتك كثيرا لزيارتي ولكنك تأبيت، هل تعلم لماذا كنت أدعوكَ؟ يشيح (جورج) برأسه لا ياسيدتي، أريدكَ أن تساعدني، (جورج) في ماذا، ولماذا أنا؟ كما تعلم أنني أيطالية الأب ولكن والدتي يونانية وأنت أقرب أوروبي لي في هذا البلد، كما أنني عرفت أنك من أصحاب النفوذ والحظوة في هذه البلاد ولديك صداقات وعلاقات بمن يحكمون هذه البلاد، حتى أنني سمعت أنك كنت تعرف الخديوي توفيق شخصيا: أنا سيدة تعيسة الحظ من مواليد جزيرة (سيسيليا) الإيطالية، كان جدي مستشارا بحريا لأسرة (البوربون) التي حكمت الجزيرة حتى عام 1848 ولكن بعد الثورة خسروا كل شيء بعدما هُزموا من قوات (غاريبالدي) 1860. فهرب جدي وجدتي ومعهما بالطبع والدي الذي كان ابنه الوحيد من جحيم الثوار، فقد كان جدي أبرز المطلوبين لحبل الإعدام، وفي نفس العام قرأ جدي إعلان بإحدى الصحف عن طلب الشركة العالمية لقناة السويس البحرية بمصر لبحارة، فقرر الإبحار لمصر، وخاصة أن مصر في تلك الفترة كانت تحتضن الغريب وملاذا للمهاجرين، وبالفعل عمل جدي بشركة قناة السويس، وبعد عدة سنوات زوج والدي من يونانية حسناء، كان والدها يعمل أيضا في نفس الشركة، وبعد أقل من عام أنجباني، وعندما كبرت وقعت في غرام شاب مصري مسيحي أرتوذوكسي من أصول صعيدية، نزحت أسرته إلى القاهرة منذ أكثر من نصف قرن، بعدما باعت طينها وأطيانها، عمل والده بالتجارة، واشتغل بصناعة العطور، ثم ازدهرت تجارته فاشترى وكالة تجارية بشارع الأزهر، كان والدي يتردد عليه لأنه التاجر القاهري الوحيد الذي يستورد أحد ماركات العطور الإيطالية المفضلة لأبي، ورويدا رويدا تم التعارف على المستوى الأسري، توفى والد زوجي فورث زوجي تجارتة، فقد كان أيضا وحيده، تقدم لخطبتي ووافقت، وبعد عدة أشهر تمت مراسم الزواج، عشت معه أكثر من عشر سنوات في سعادة وسرور، توج هذا الزواج بطفلة جميلة، لكن لم تدم هذه السعادة طويلا، بدأت مأساتي أنا وزوجي عندما خرجت ابنتي للعب مع أقرانها في الشارع ولم تعد، وبعد عدة أسابيع من البحث والتحري، عثر عليها البوليس جثة هامدة في مدينة بورسعيد، مشوهة مقتولة بطريقة بشعة، لم يتمالك والدها نفسه عندما شاهد فلذة كبده على هذه الصورة فمات كمدا، فشل البوليس في العثور على الجناة، ولم يعرف بالطبع أسباب القتل بهذه الطريقة الوحشية، رغم أني رصدت مبلغا كبيرا لمن يرشد عن قاتل ابنتي أو يدلي حتى بمعلومة واحدة توصلني للجاني حتى أخذ بثأري لتسكن روحي، فكما قلت لك أنني من (سيسيليا) ومعروف عن أهالي (سيسيليا) أنهم لايتركون ثأرهم مثلهم مثل الصعايدة في مصر لاينسون ثأرهم حتى ولو بعد مائة عام، وأريدك أن تساعدني في هذا الأمر ولك ماتشاء من أموال”. (جورج) بتلعثم وبصوت متهدج متعاطف مع السيدة (صوفيا) تقبلي خالص عزائي ياسيدتي، نعم أذكر هذه الحادثة جيدا فقد قرأت عنها في الصحف فقد هزت المجتمع المصري كله، ثانيا أود أن أشكرك على هذه الثقة وأعدك أن أبذل قصارى جهدي حتى نصل إلى الجاني، من فضلك هيا لنخرج من هنا حتى لا نضع أنفسنا في موضع شبهة، سأتركك الآن لترتدي ملابسكَ وسأخرج أنا أولا، ثم خلع قبعته وانحنى للسيدة، ثم قبل يدها وانصرف.

التعليقات مغلقة.