مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

المستطيل الأخضر.. خندق الانقسام العربي حرب القبائل الكروية

بقلم -الدكتور حسن العاصي:

أكاديمي وكاتب فلسطيني

 

كرة القدم، تلك اللعبة التي وُلدت لتكون مساحة للفرح، تحولت في ملاعب العرب إلى ساحة اصطفاف أعمى، حيث تُستبدل الروح الرياضية بقبائل رقمية تتناحر على منصات التواصل الاجتماعي. مباراة عادية بين فلسطين وسورية في بطولة العرب انتهت بتعادل وتأهل الفريقين، لكنها فجّرت بركانًا من الكراهية والاتهامات.

 

لم تكن مباراة كرة قدم عابرة بين فلسطين وسورية في بطولة العرب مجرد تسعين دقيقة من الركض خلف الكرة، بل تحولت إلى مرآة مشروخة تعكس هشاشة الوعي الجمعي العربي. تعادل بسيط وتأهل مشترك أشعل نيرانًا لا تُطفأ على منصات التواصل الاجتماعي، حيث انقلبت الرياضة إلى ساحة حرب كلامية، وارتفعت أصوات تتهم بالمؤامرة وتصرخ بالخيانة، وكأن المستطيل الأخضر صار خندقًا سياسيًا.

 

فجأة، وجدنا أنفسنا أمام مشهد عبثي: صار التضامن مع فلسطين موضع شك، وصار السوريون متهمين بالمؤامرة، وصار التونسيون في نظر بعض الأصوات ضحايا “خيانة” كروية. تونسيون غاضبون يرون في التعادل خطة لإقصاء منتخبهم، أصوات عربية تشكك في جدوى التضامن مع فلسطين، وآخرون يذهبون إلى حد تحية إسرائيل والقول إن نتنياهو يعرفهم أكثر منا! والبعض من التوانسة بصق وهو يلفظ اسم فلسطين وسورية. أي سقوط هذا؟ أي انحدار يجعل مباراة كرة قدم تُحوّل الأخوة إلى عداوة، والتضامن إلى تهمة، والحب إلى كراهية؟

 

أي عبث هذا؟ أي جنون يجعل كرة القدم تتحول إلى سكين يقطع أوصال الأخوة العربية؟ إننا أمام مشهد يفضح عمق الأزمة التي تعيشها شعوبنا العربية، ويكشف كيف يمكن لمباراة كرة قدم أن تفتح جروحًا سياسية واجتماعية عميقة، وأن تُظهر أن التزمت والحقد قادران على سحق كل قيم التضامن والحرية والعدالة التي طالما تغنّت بها الشعوب العربية.

 

الأزمة هنا ليست في النتيجة الرياضية، بل فيما كشفته من أعماق مظلمة: أن التعصب قادر على إثارة النعرات، وأن كرة القدم، بدل أن تكون لغة فرح ووحدة، صارت أداة لتمزيق الشعوب وإعادة إنتاج الحقد الأعمى. نحن أمام لحظة خطيرة، لحظة تُظهر أن الخلافات العربية-العربية لا تحتاج إلى قضايا كبرى لتنفجر، بل يكفي هدف ضائع أو تعادل مشبوه كي تنهار كل الشعارات عن الوحدة والمصير المشترك.

 

هذا السقوط الأخلاقي يظهر كأنه طبولٌ سوداء تُقرع في ليل الأمة، لا تعلن فرحًا ولا نصرًا، بل تُعلن انقسامًا يتجدد مع كل جرحٍ يُفتح في جسد الوطن. هي طعنات لا تأتي من عدوٍ بعيد، بل من يدٍ قريبة، من أخٍ يشاركنا الخبز واللغة والذاكرة. تتكرر الطعنات كما تتكرر دقات النقارة، إيقاعٌ يرسّخ الكراهية ويُعمّق الشرخ، حتى يغدو الدم لغةً يومية، والاختلاف لعنةً بدل أن يكون ثراءً.

 

إنها ليست مجرد تصريحات عابرة، بل مشروعٌ لإعادة تشكيل الوعي الجمعي على إيقاع الانقسام، حيث تُستبدل قيم التعايش بأناشيد الفرقة، ويُستبدل صوت العقل بضجيج الطبول الطائفية والقطرية.

 

 

 

انفجار وسائل التواصل والإعلام

 

ما إن أطلق الحكم صافرة النهاية حتى تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحة حرب مفتوحة. لم يعد الأمر مجرد نقاش رياضي، بل انفجار من الشتائم والاتهامات، حيث ارتفعت أصوات تتحدث عن “مؤامرة لإقصاء تونس”، وأخرى تهاجم فلسطين وتشكك في جدوى التضامن معها، وثالثة تذهب إلى حد تحية إسرائيل والقول إن نتنياهو يعرف العرب أكثر من أنفسهم! أي سقوط هذا؟ أي انحدار يجعل مباراة كرة قدم تُسقط كل القيم وتفتح الباب أمام خيانة رمزية بهذا الحجم؟ الإعلام بدوره لم يكن بريئًا، بل ساهم في تأجيج النار. بعض المنابر التونسية والعربية تعاملت مع التعادل وكأنه جريمة سياسية، وبدل أن تلتزم بالموضوعية، انخرطت في خطاب تعبوي يزرع الشك ويغذي الغضب. فجأة، صار المستطيل الأخضر خندقًا، وصار اللاعبون أدوات في معركة هوية، وصار الجمهور وقودًا لحرب كلامية لا تنتهي. الأخطر أن هذه التعليقات لم تقف عند حدود الرياضة، بل انزلقت إلى مستويات أخلاقية خطيرة: التهكم على فلسطين، البصق على اسمها، تحويل التضامن إلى تهمة، والتشكيك في معنى الأخوة العربية. هنا لم نعد أمام مجرد تعصب رياضي، بل أمام انهيار في منظومة القيم، حيث يصبح الانفعال اللحظي أقوى من التاريخ، وأقسى من الدماء التي سالت دفاعًا عن الحرية والكرامة. إن ما جرى على وسائل التواصل والإعلام يفضح هشاشة الوعي الجمعي العربي، ويكشف أن التعصب قادر على تحويل الرياضة إلى أداة تمزيق، وأن الكراهية حين تُطلق بلا ضوابط، لا تكتفي بالهجوم على فريق أو نتيجة، بل تهاجم فكرة الأمة نفسها. نحن أمام مشهد يختصر مأساة كاملة: شعوب تبحث عن انتصار رياضي لتثبت وجودها، فإذا خسرته، انقلبت على أقرب إخوتها، وفتحت الباب لأعدائها كي يصفقوا لهذا الانقسام.

 

 

 

كرة القدم كأداة اصطفاف قطري

 

كرة القدم في العالم تُعرف بأنها “اللعبة الجميلة”، لكن في السياق العربي كثيرًا ما تتحول إلى ساحة لتصفية الحسابات القُطرية، وإلى مرآة تكشف عمق الانقسامات التي نخفيها تحت شعارات الوحدة. مباراة واحدة تكفي لتُعيد إنتاج خطاب “نحن” ضد “هم”، وكأننا أمام معركة وجودية لا مجرد منافسة رياضية. في لحظة التعادل بين فلسطين وسورية، لم يرَ البعض سوى مؤامرة ضد تونس، وكأن المستطيل الأخضر صار امتدادًا لمؤتمرات القمم العربية التي تنتهي دائمًا بالانقسام. هنا يظهر الوجه الحقيقي للأزمة: الرياضة لم تعد مجرد لعبة، بل تحولت إلى أداة لإعادة إنتاج العصبيات القديمة، حيث كل دولة تُسقط على النتيجة هواجسها السياسية والاجتماعية. هذا الاصطفاف ليس جديدًا؛ فقد رأيناه في مواجهات مصر والجزائر، وفي مباريات المغرب والجزائر، وفي كل مرة تتحول المنافسة الرياضية إلى حرب هوية، تُستحضر فيها الذاكرة الاستعمارية، والخصومات التاريخية، والخيبات السياسية. كرة القدم تصبح إذن مسرحًا مكشوفًا، تُعرض فيه كل العقد التي لم تُحل، وكل الجروح التي لم تلتئم. الأخطر أن هذه الاصطفافات تُغذيها وسائل الإعلام والجماهير معًا، فتتحول الهتافات إلى شعارات سياسية، والنتائج إلى مواقف قومية، وكأننا أمام استفتاء على الولاء والانتماء. وهكذا، بدلاً من أن تكون الرياضة مساحة للفرح المشترك، تتحول إلى ساحة لإعادة إنتاج الحقد الأعمى، حيث تُقاس الأخوة بعدد الأهداف، ويُختزل التضامن في نتيجة مباراة. إن ما جرى بين فلسطين وسورية ليس مجرد حادثة معزولة، بل هو نموذج صارخ لكيفية انزلاق الرياضة إلى أداة تمزيق، وكيف يمكن لتعادل بسيط أن يُعيد فتح ملفات الوحدة العربية، ويكشف أن الشعوب التي لم تستطع أن تتفق في السياسة، لن تستطيع أن تتفق حتى في الرياضة.

 

 

 

البعد السياسي والاجتماعي للصراع الكروي

 

حين تنزلق كرة القدم من ملعبها إلى المجال العام، تتحول إلى أداة تفكيك اجتماعي لا تقل خطورة عن خطاب الكراهية السياسي. التعادل بين فلسطين وسورية أخرج إلى السطح منظومات كامنة: هشاشة الانتماء، وغياب الثقافة المدنية، وقابلية الجماهير للانقياد خلف سرديات جاهزة تُختزل فيها القضايا الكبرى إلى خصومات صغيرة. هذه ليست أزمة رياضة؛ إنها اختبار قاسٍ لمدى قدرتنا على التفريق بين الهوية والقميص، بين المبادئ والنتائج، بين التضامن كقيمة دائمة والانفعال الموسمي الذي يحرق كل شيء ثم يرحل.

 

هي السياسة التي تتخفى في المدرجات. فلم تعد المدرجات مجرد مقاعد للجماهير، بل تحولت إلى مسرحٍ سياسي صاخب، حيث تتخفى خلف الهتافات لغةٌ كاملة من الانفعالات المشحونة. حين يُقرأ التعادل بين فريقين كـ”مؤامرة”، يصبح الجمهور امتدادًا لخطاب النخبة العاجزة عن إدارة الاختلاف، ويُستدعى قاموس الخيانة والولاء ليُعاد تدوير لغة الأزمات داخل مباراة كرة قدم، وكأن الشعوب تبحث عن ذريعة لتفريغ مكبوتها الجمعي. هنا، لا يعود الهدف مجرد كرة في الشباك، بل يصبح رمزًا يُحمَّل بما لا يحتمل من معاني سياسية واجتماعية، فيغدو الملعب نسخة مصغرة من قاعة برلمانٍ مأزوم أو قمة عربية تنتهي بالانقسام.

 

أما منصات التواصل، فقد تحولت إلى وكالاتٍ سريعة لإنتاج المعنى، تعمل كمسارح تعبئة جماهيرية تُطلق عناوين حادة وتغلق باب التفكير. يصبح “الترند” سياسة بديلة تُهيمن على المزاج العام، فتُصنع آراء لا تستند إلى حقائق، بل إلى جملة صاخبة وصورة مثيرة للغرائز. في لحظة واحدة، يمكن لوسمٍ أن يختزل قضية شعبٍ كامل، وأن يُحوّل التعادل الرياضي إلى خيانة وطنية، وأن يُعيد تشكيل المزاج الجمعي على إيقاع الغضب اللحظي.

 

وفي هذا المناخ، يُستبدل النقد بالخصومة، ويُقتل السؤال الجاد قبل أن يولد: لماذا نغضب بهذه السرعة؟ لماذا نخلط بين فلسطين كقضية وجود وبين نتيجة مباراة عابرة؟ الإجابة المؤلمة تكمن في أننا فقدنا أدوات النقاش الرصين، فاستعنا بالهتاف مكان الحجة، وبالشتيمة مكان السؤال، وبالانفعال مكان العقل. وهكذا، تتحول المدرجات إلى مختبرٍ لإعادة إنتاج العصبيات، وتتحول الرياضة إلى مرآةٍ تكشف عجزنا عن الفصل بين الانتماء والنتيجة، بين القضية الكبرى والانفعال الصغير.

 

إنها سياسة تتخفى في المدرجات، لكنها سرعان ما تخرج إلى العلن، لتفضح هشاشة الوعي الجمعي، وتكشف أن ما نظنه مجرد مباراة ليس إلا اختبارًا قاسيًا لمدى قدرتنا على التمييز بين اللعب والهوية، بين التضامن كقيمة دائمة والانفعال الموسمي الذي يحرق كل شيء ثم يرحل.

 

 

 

المجتمع حين يتصدع تحت ضغط المباراة

 

قد يهمك ايضاً:

بلسانك ترتفع بحسن الخلق والله هو من اضحك وأبكي وأسعد واشقي …

عماد السعدني يَكتُب: الدكتور الوسيم وحفيدات زُليخة ! 

إن المباريات ليست مجرد منافسة رياضية، بل لحظة اختبار حقيقية لصلابة العقد الاجتماعي بين الشعوب. هشاشة العقد الاجتماعي تظهر بوضوح حين يُختبر التضامن في لحظات التوتر؛ فإذا انهار أمام تعادل رياضي، فهذا يعني أنه لم يكن تضامنًا أصيلًا، بل مجرد مزاج عابر يتبدد مع أول هزّة. الأخوة التي تُقاس بعدد الأهداف لا يمكن أن تصمد أمام امتحانات التاريخ الكبرى، ولا أمام الدماء التي سالت دفاعًا عن الحرية والعدالة. هنا يتضح أن الشعارات التي تُرفع في المناسبات ليست سوى قشرة رقيقة، سرعان ما تنكشف هشاشتها أمام ضغط مباراة كرة قدم.

 

وفي قلب هذا الانهيار، تتجلى آلية خطيرة هي صناعة “العدو القريب”. حين يعجز الخيال السياسي عن مواجهة الأسباب الحقيقية للألم والفشل، يبحث عن قربانٍ سهل المنال. يصبح الشقيق هو “الخصم الأسهل”، تُرمى عليه مسؤولية الإخفاق، ويُرفع عنه حق القرابة، وكأننا نرتاح في تمزيق ما تبقّى من المشتركات. هذا التحول من التضامن إلى الاتهام يعكس أزمة عميقة في الوعي الجمعي، حيث يُستبدل التفكير في جذور الأزمة بالبحث عن كبش فداء، ويُستبدل النقد البنّاء بالخصومة التي تُعيد إنتاج الانقسام.

 

الأخطر من ذلك هو تطبيع الإهانة. الشتائم والبصق على الأسماء ليست مجرد انفعال عابر يُمحى مع الوقت، بل هي إشارات لانهيار أخلاقي يشرعن الإساءة ويُعيد تعريف الشرف الجمعي بمنطق الثأر الرقمي. حين تصبح الإهانة فعلًا مقبولًا، وحين يُنظر إلى الإساءة كجزء من “الانتصار”، فإننا نكون أمام إعادة صياغة خطيرة للوعي العام، حيث يُختزل الكرامة في القدرة على تحقير الآخر، ويُختزل الانتماء في القدرة على إقصاء الشقيق. هذا التطبيع لا يقتصر على لحظة المباراة، بل يمتد ليصبح جزءًا من الثقافة اليومية، فيغدو العنف اللفظي لغةً مألوفة، ويصبح الانقسام عادةً تُمارس بلا وعي.

 

هكذا، تحت ضغط مباراة واحدة، يتصدع المجتمع: العقد الاجتماعي ينهار، العدو يُصنع من أقرب الناس، والإهانة تُشرعن كأداة للتعبير. وما يبدو في الظاهر مجرد تعصب رياضي، هو في العمق مرآة تكشف هشاشة البنية الأخلاقية والسياسية، وتفضح أن الشعوب التي لا تحتمل تعادلًا رياضيًا، قد لا تكون قادرة على مواجهة امتحانات التاريخ الكبرى.

 

 

 

الإعلام ومسؤولية الإنتاج الرمزي

 

في لحظةٍ كان يُفترض أن يكون فيها الإعلام صمام أمان، تحوّلت المنابر إلى وقودٍ إضافي للنار المشتعلة. الانجرار إلى التحريض صار هو القاعدة لا الاستثناء؛ فحين تتخلى المؤسسات الإعلامية عن مهنتها في التدقيق والتبريد، تصبح طرفًا مباشرًا في إشعال الحرائق. يذوب الفاصل بين الرأي والمعلومة، وتتحول الشاشة إلى ساحة تعبئة جماهيرية، تقود الناس حيث تريد الغرائز لا حيث يقود العقل. هنا، لا يعود الإعلام وسيطًا للمعرفة، بل يصبح أداةً لتأجيج الانفعال، يزرع الشك بدل أن يزرع الفهم، ويغذي الغضب بدل أن يفتح باب التفكير.

 

وكان على الإعلام أن يمارس دوره التربوي في إدارة الفاجعة، أن يحوّل اللحظة إلى درسٍ جماعي: كيف نختلف بلا كراهية؟ كيف ننتقد بلا أن ننزع الشرعية عن قضايا الأمة الكبرى؟ لكنه فضّل لغة الصدمة على لغة المسؤولية، فخسر دوره كمؤسسة تربوية للوعي العام. اختار الإثارة بدل التبصير، وفضّل العناوين الصاخبة على التحليل الرصين، فصار جزءًا من الأزمة بدل أن يكون أداةً لتجاوزها. الإعلام الذي كان يُفترض أن يعلّم الجماهير كيف تُمارس النقد بلا خصومة، وكيف تُمارس الحماسة بلا إهانة، انخرط في خطابٍ تعبوي يضاعف الشرخ ويُعمّق الانقسام.

 

أما مهمة إعادة بناء الثقة، فهي التحدي الأكبر الذي يواجه الإعلام اليوم. فلا خلاص دون معايير صارمة: تدقيق في المعلومة، سياق يضع الأحداث في حجمها الحقيقي، مسافة نقدية تحمي من الانجرار وراء الغرائز، ورفض قاطع لتحويل الملاعب إلى مختبر للكراهية. الإعلام مطالب بأن يستعيد دوره كحارسٍ للوعي الجمعي، لا كأداةٍ لتفكيكه، وأن يعيد تعريف نفسه كمنبرٍ للتربية المدنية، لا كمنصةٍ للانفعال اللحظي. فالمجتمعات التي تفقد ثقتها في إعلامها، تفقد واحدة من أهم أدواتها في بناء المعنى المشترك، وتترك الساحة مفتوحة أمام الفوضى الرقمية التي لا تعرف حدودًا ولا مسؤولية.

 

هكذا، يصبح الإعلام في قلب الأزمة: إما أن يكون أداةً لإعادة بناء المعنى وترميم الثقة، أو أن يظل طرفًا في صناعة الانقسام، يشرعن الكراهية ويُعيد إنتاجها في كل مباراة وكل حدث.

 

 

 

ما العمل؟ من إصلاح المزاج إلى ترميم المعنى

 

أمام هذا الانهيار الأخلاقي والاجتماعي الذي فجّرته مباراة كرة قدم، يصبح السؤال الملحّ: ما العمل؟ كيف يمكن أن نعيد بناء المعنى ونرمم ما تصدّع تحت ضغط الانفعال؟

 

أول الطريق يبدأ بـ فصل الحقول. نحن بحاجة إلى ثقافة مدنية واضحة تفصل بين الرياضة والهوية السياسية، بين الفوز والكرامة، بين التعصب والانتماء. الفوز لا يمنح شرعية، والخسارة لا تسقط قضية، لأن القضايا الكبرى لا تُقاس بنتيجة مباراة، بل تُقاس بعمق التاريخ وبقوة المبادئ. حين نخلط بين الملعب والهوية، نسمح للكرة أن تتحول إلى أداة تمزيق بدل أن تكون مساحة فرح، ونسمح للنتائج أن تتحكم في مصير قيم لا يجوز أن تُمس.

 

ثم يأتي دور تعليم الأخلاق الجماهيرية. المدارس والأندية والإعلام مطالَبة بأن تغرس قيم اللعب النظيف في المجال العام، وأن تُعلّم الأجيال كيف يختلفون دون تشويه، وكيف ينتقدون دون تخوين، وكيف يمارسون الحماسة دون إهانة. هذه ليست مجرد شعارات تربوية، بل هي أساس لبناء مجتمع قادر على إدارة اختلافاته بلا أن ينزلق إلى الكراهية. فالأخلاق الجماهيرية هي الحصن الذي يحمي العقد الاجتماعي من الانهيار أمام أول هزّة رياضية أو سياسية.

 

ولا بد من صياغة ميثاق رياضي عربي، قواعد معلنة تضبط خطاب الجماهير والإعلام حول المباريات الحساسة، وتجعل من التحريض جريمة لا تُقبل، ومن حماية الرموز واجبًا، ومن تبنّي لغة تقرّب ولا تُقصي معيارًا لا يُساوم عليه. هذا الميثاق ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية، لأن الشعوب التي لا تضع حدودًا للغضب، سرعان ما تتحول ملاعبها إلى مختبرات للكراهية، وشاشاتها إلى ساحات تعبئة تُعيد إنتاج الانقسام.

 

وأخيرًا، علينا أن نعمل على إعادة تعريف التضامن. فلسطين ليست هاشتاغًا، وسورية ليست نتيجة مباراة. التضامن قيمة فوق المتغيّرات؛ من يقيسها بجدول النقاط يفرّط بها في أول عثرة. التضامن الحقيقي هو الذي يصمد أمام الهزائم والانكسارات، ويظل حاضرًا كقيمة أخلاقية لا تُمس، لا كحماسة موسمية تُشعلها مباراة وتطفئها أخرى.

 

الخلاصة: ما حدث ليس مجرد انفعال رياضي؛ إنه إنذار أخلاقي وسياسي. إذا كانت مباراة قادرة على تفجير هذه الكمية من الكراهية، فالمشكلة ليست في المستطيل الأخضر، بل في هشاشة وعيٍ يخلط بين الخصومة والهوية، وبين اللعب والكرامة. كرة القدم قد تكون مرآة؛ فإن رأينا فيها وجوهنا مشوّهة، فالواجب أن نعالج القبح فينا لا أن نكسر المرآة.

 

 

 

وبعد؟

 

ليست القضية في مباراةٍ انتهت بتعادل، ولا في هدفٍ ضائع أو تأهلٍ مشترك؛ القضية في أن شعوبًا بأكملها كشفت هشاشتها أمام كرةٍ تتدحرج على عشبٍ أخضر. حين تتحول الرياضة إلى خندق، والتضامن إلى تهمة، والأخوة إلى شتيمة، ندرك أن الأزمة ليست في الملاعب، بل في العقول والقلوب التي لم تتعلم بعد كيف تختلف بلا أن تنكسر، وكيف تتنافس بلا أن تتناحر. إن كرة القدم لم تُسقط القيم، بل فضحت سقوطها المسبق، وأظهرت أن الانقسام يسكننا أكثر مما تسكننا الوحدة.

 

فإذا كانت مباراة عابرة قادرة على إشعال هذا البركان من الكراهية، فالسؤال الذي يبقى معلقًا

في وجهنا جميعًا: كيف ستصمد أمةٌ لا تحتمل تعادلًا رياضيًا أمام امتحانات التاريخ الكبرى؟