مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

المحاكاة

1

بقلم – عبد الله بير:

تجول في المدينة يبحث عن قصة جديدة ، يتفصح الوجوه و الاماكن عسى ان يجد ضالته ، بعد انقطاع الالهام عنه إثر قراءته قصة لكاتب مشهور اثرت في طريقة تفكيره . بعد ساعات بدأ الاعياء و التعب يتسربان إلى جسده و روحه واحس باليأس ، فاقتحم مقهاً شعبياً قديماً لأخذ استراحة و شرب كوبٍ من الشاي .

 

كان الزبائن مجاميع من العتالين و الحمالين و عاملي النظافة و باعة متجولين و باعة القطع الأثرية في السوق القديم ، كانوا يتبادلون شذرات الاخبار و المواضيع المختلفة ، بدأ يرتاح لان جو المقهى كان مفعماً برائحة السجائر و الابخرة المعطرة برائحة الشاي المختلطة بزفير الزبائن . مسح بعينيه المقهى من اقصاه إلى اقصاه ، مع كل الوجوه الموجودة فيه ، وهم يتحدثون و يتضاحكون ، فطلب كوباً من الشاي ، اخرج علبة السجائر ، بدا يدخن و يشرب الشاي و يتحدث مع نفسه : – كل شيء طبيعي ، كل شيء طبيعي ، يقولون لو اردت ان ترى بشكل مغاير ، غير زاوية النظر لديك ، كيف يحدث ذلك ؟ فهذا عتال يبدوا عليه علامات الرضا و ذاك المعمر ذو الملابس الرثة يبدو فرحاً جداً و وجهه مشرقٌ و علامات السرور بادية عليه .

 

وذلك الشاب المعوق ذو الرجل الواحدة ، جالس كأنه ملك الزمان. نظر إلى كوبه و السيجارة على وشك الانتهاء ، فلم يكمل الشاي و خرج بعد أن دفع حسابه لصاحب المقهى . مشى باتجاه الحي القديم ، و خطط للتسكع في ازقتها ، عله يعثر على ضالته ، لكن ما استوقفه و منعه من ذلك هو وقوف مجموعة من الشبان حول مجنون يسخرون منه وهو نائم و قد افترش الرصيف و ذهب في سبات عميق ، صنع من ورق مقوى مخدة ، كان رث الثياب, اشعث الشعر ، ملتحٍ ، غزا الشيب صدغية و بعض من لحاه .

 

قد يهمك ايضاً:

وزيرة الثقافة :تشكيل لجنة لمتابعة تنفيذ توصيات الحوار الوطني

نظر خلسة من وراء ظهورهم ، كان وجه المجنون يبدوا ملائكياً على قارعة الطريق و هو في ذاك السبات عميق ، لم يكدر صفو نومه أي شيء في هذه الدنيا ، فراشه الرصيف و مخدته ورق مقوى ملفوف و لحافه مظلة حديدية لدكان مغلق . احس ببركان من الافكار تنفجر في راسه ، بدأت الاسئلة تتزاحم و لا تدع له مجالاً للأجوبة, تشرق أخرى قبل مغيب الأولى ، كيف ، لماذا ، ما ، مَن ، متى ، اين ……؟؟؟؟؟؟؟ فرجع على عقبيه و راسه يتمايل من الافكار و لا يعرف من اين يبدا و اين ينتهي ، و طفق يردد مع نفسه : – وجدتها ، وجدتها ….. عاد إلى البيت ، وهو يخطط في عقله أمراً و يتسأل : – كيف يكون جانب الجنون من الحياة، كيف ؟ عكف في البيت لأشهر دون ان يغتسل او يبدل ملابسه او حتى يحلق لحيته او راسه ، فاصبح كالذي راه في الشارع رث الثياب أشعث الشعر كث الحية . نظر إلى نفسه في المرآة بعد اشهر ، فتفاجئ ، لأنه لم يكد يعرفها، فذهب إلى غرفة المكتب و فتح صفحة بيضاء جديدة في دفتره و كتب اعلاها ” حياة مجنون ” ثم خرج إلى الشارع حافياً ، يتلبس الجنون . يجلس حيث يشاء ، يفترش الارصفة و يتناول من القمامة او ما يرمى له من طعام ، ينام في الشارع و يلف ورق مقوى لتكون له مخدة. مع كل اشراقة صباح يعود إلى البيت و يكتب جملة او جملتين مما شعر او احس او سمع او رأى في الليلة الماضية .

 

ولت ليالي الخريف اللطيفة و بدأت برودة الشتاء تعشعش في الارصفة و توجع أطرافه, إلا انه استمر في اللعبة ، كان يصحو مع صوت الرعد او سيولٍ تمر تحته و تبلل ثيابه ، كان يقول في نفسه: – لم تكتمل القصة بعد . في احدى صباحات الشتاء الباردة جداً ايقظه شخص كان له مثل منظره و لكنه لم يكلمه ، إنما هزه و لما استفاق و كان يرتجف من البرد اوضح له الرجل بإشارات يدوية ان الجو بارد جدا، فعلا كانت كل بقعة في جسده وكأنها قطعة من ثلج فعاد إلى البيت طلباً لبعض الحرارة ، مكث يوماً او بعض يوم في كي يستعيد عافيته ، وكتب ملاحظاته مثل كل يوم ، وعاد إلى الشارع .

 

في احدى الليالي كان البرد يقرص العظام و غطى الصقيع كل شيء ، كان يفترش رصيفاً تحت سقيفة احدى الدكاكين ، ملء كيس من نايلون بأوراق او بقايا اكياس ممزقة و جعلها مخدة له وافترش قطعة ورق مقوى و التحف بأكياس نايلون متهالكة ، كانت اسنانه تصطك و جسده كله يرتعش، كان البرد لا يطاق وهو يقول في نفسه : – لم ارى او اسمع بان مجنوناً مات من البرد ، لابد أن لهم حيّل لقهر هكذا برد . ظل يردد في نفسه هذا الكلام إلى ان شعر بدفً يقتحم رجليه و يتصاعد رويداَ رويداً إلى ان وصل إلى ركبتيه و احس انه يغطس بهدوء في حوض ماء دافئ ، فغفى .

 

في الصباح الباكر تجمهر بعض الباعة المتجولين و بعض العتالين الذين خرجوا للعمل و بعض الموظفين وهم في طريقهم إلى العمل على جثة رجل رث الثياب كث الحية و قد تجمد من البرد حتى الموت .

اترك رد