مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

الأديب الكبير الصديق بودوارة: “قبل منتحرة” رواية الأزمنة المتداخلة

48

قبل منتحرة ..
رواية الأزمان المتداخلة

                                        قراءة الأديب الليبي/ الصديق بودوارة

كل الأوطان أتربة تبتلع الأحبة !
كل الأوطان تسرق منا فرح عشقنا لها..
كل الأوطان نحررها فتكبلنا..

يمكنك وبالكثير من اليسر، أن تعثر على سبيكة الذهب هذه في طيات رواية “قُبل منتحرة” للتونسية “سماح بني داود”، ولكنك سوف تحتاج إلى الكثير من الوقت لتكتشف تراتبية الأوطان هذه، وتعرف على وجه اليقين كيف تتدرج ملامح الوطن مع مرور الوجوه وتعدد الأزمان.

ما شدني إلى هذه الرواية هو ذلك الزمن الذي يضطجع سيداً مهاباً على مدى مساحتها، فهو زمنٌ لا نهائي متدرج يقبض بيدٍ من حديدٍ على مقاليد أموره، حتى أنه يغمز لنا بطرف عينه في نهاية الرواية وكأنه يهمس لنا بخبثٍ لا نملك له دفعاً :
ــ لا تظنوا أن الرواية انتهت، فأنا لم أمت بعد.

“رواية الأزمان المتداخلة”، ربما امتلكني هذا العنوان وأنا أسبر غور سطور هذه الرواية، وكلما كان يقيني يرتعش بهذا الخصوص، كانت الرواية تمدني بالمزيد من معالم هيمنة الوقت على أبطال الحدث، فأعود من جديد لاستحضر ما كتبه “أوستن وارن” الذي وصف الأدب بأنه “فن زمني”، حتى أنه فصله عن الفن التشكيلي وعن النحت مثلاً معتبراً هذين الأخيرين بمثابة “فن مكاني” لا يملك ميزة الحركة .

المستويات الخمسة للإهداء الواحد :

كنت أريد أن أدخل إلى الرواية من باب سردها الأول، من أول حدثٍ يبدأ في صنعه الأبطال، لكن الإهداء استوقفني وكأنه يريد أن يهمس لي بأنه فاتحة الدرس، وأن علِّي أن أطلب منه تأشيرة الدخول قبل أن ألج وطن الحكايات هذا.

في الإهداء ثمة تراتبية تؤسس لما بعدها، تراتبية تحتاج لكي تثبت أقدامها، إلى زمن، ولكي ننصف الفكرة علينا أن نتمعن في هذه السطور :

إلى كل حبة تراب تونسية وجزائرية ارتوت بدماء الشهداء.
إليك أيها الشهيد الحي في جنان لا نراها.
إلى دموع الأمهات، والأرامل و اليتامى.
إلى كل أفراد عائلتي.
إليك أنت فقط.
وأنت تعلم من تكون.

خمسة مستويات، لإهداءٍ واحد، فالكاتبة تبدأ مبكراً لعبة الزمن السردي لروايتها، وكأنها تستفز زمناً آخراً هو زمن القراءة عند المتلقي، وكأنها تخبره مسبقاً بأن زمنه مهدد بالتمدد أكثر، فالمزيد لم يأت بعد، وما هذه التراتبية إلا مقدمة صغيرة لجيشٍ جرار .
إن “سماح” تنحت من الإهداء مدارج كتلك التي نحتها الإنسان في بدن الجبل لكي يجعله يذعن لفكرة أن ينتج الصخر فاكهةً وسنابل قمح، لذلك فهي تجعل من مدرجها الأول هبةً خالصةً لترابين، لوطنين حسب قواعد جغرافيا الخرائط الطبوغرافية، لكنه وطن واحد إذا ما احترمنا عشرة آلاف سنة من حضارة الإنسان في هذا المغرب الكبير.
والكاتبة تقرن ذلك التراب الذي ارتوى بدماء الشهداء في مدرجها الثاني بصاحب العلاقة المباشر، بالشهيد الذي تصبح دماؤه مختلفة عن دماء غيره، في سيرة ترجع بجذورها الأولى إلى ما قبل التاريخ، عندما امتلك إنسان المغرب القديم ذلك النمط الفريد من الاعتقاد الذي جعله يدرك مبكراً أن هناك ماءً مقدساً، وهناك ماء لمجرد الاستعمال البشري، وقتها كانت الدنيا لم تفرق بعد بين لحمٍ أنضجته النار وبين لحم يركض هرباً من رمح صياده.

مدرج الإهداء الثالث كان قرباناً على مذبح التضحية، كان منحةً لا تُرد للدموع، لكنها ليست دموعاً مجانية، بل هي دموع مقدسة لكائن مقدس، فالأم هي أرض ثانية، وهي التي وهبت للدنيا من تذرف الآن دموعها لهم ومن أجلهم، فلم تكن الأرامل، ولا اليتامى، إلا نطفة في رحم أم، فالأصل هنا يبكي غياب الفروع، وهذه الفروع في رواية “سماح” لا تكف عن التجدد كلما أمعن في تقطيع أوصالها العدو.
مدرجها الرابع انحنى على ذاته بعض الشيء، فالخلية تحتضن نواتها، بل أنها تحيطها بسائل الحياة لكي لا تعطش ولا تجوع، وهذه النواة هي العائلة، ذلك الكيان الذي ينتج للوطن من يموتون لأجله، ومن يرتكبون بحقه الخيانة أيضاً، وهو الذي يمنح الأرض من يزرع أحشاءها خيراً فتزهر، ومن يدس في طياتها الخراب فتموت.
مدرجها الأخير كان للقلب، وبالتحديد لمن يسكنه، فالكيان البشري لغز كبير لا يمكن رسم الخرائط له، وهو أيضاً حكاية متصلة لا نملك إلا أن نقرأها كاملة غير منقوصة، وإلا ضاعت منا التفاصيل.
هذه هي المستويات الخمسة للإهداء الواحد، وكلها مستويات دائرية تحتاج لكي تتجسد إلى زمنٍ دائري، ولك أن تقرأ الإهداء من مستواه الأخير صعوداً لتصل إلى هذه الحقيقة، فبدون قلب يستوطنه حبيب لا يمكن للإنسان أن يرتقي إلى استيعاب مفهوم التعاضد مع عائلة، وبدون عائلة، لا يمكن أن ننتج تلك التركيبة السحرية التي تحتضن نواتها مجسدةً في أمٍ هي بمثابة الرحم الإلهي الذي ينتج من يضحون في سبيل الأم الأكبر، تلك التي يموت فداءً لعينيها الشهيد .

قد يهمك ايضاً:

مهرجان دبي للكوميديا 2024 يستضيف مجموعة جديدة من نجوم…

تعاون استثنائي بين “دو” و”شاهد”…

الزمن يبدأ دورانه :

(( تعال بني، خذ مني القلم يا ابن الجزائر ودوِّن، دوّن أنك جزائري حر، اكتب، حبرك لا يجف، اكتب أنك هناك ولدت على لحاف من حرير غزلته حورية تونسية ليلة شتاء بارد. ))

مبكراً تدخل الروائية في صلب الموضوع، إنها لا تخذل مدرج إهداءها الأول، فهاهو الانتماء يولد في الصفحة الأولى معلناً أن سطر الحدث الأول ولد بجزائري استضافه لحاف من غزل تونسية.
الزمن الدائري هنا يولد، وتقص “هنية” شريط الدخول إليه لنكتشف الأرض الأولى التي كانت رحماً للعائلة التي تفرع منها كل شيء .

كما في ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، ينتج الزمن شخوصه في متوالية روائية جديرة بالتأمل، فالزمن هنا لا يتلكأ، ولا ينتظر، إنه “يحدث”، بمعنى أنه يواصل التشظي هنا وهناك، ومع كل شظية ينتج أبطال ذلك الحدث الذين يتآزرون مع غيرهم لإكمال العمل، أو يسارعون إلى تكملة ما بدأه ذلك الجيل الذي مضى، أو ربما يسارعون إلى هدمه رأساً على عقب.

هناك إذا تسارع في خلق الحدث، في إطار زمنٍ سردي يجعلك تمعن وراءه لكي لا تفوتك شاردة، بل أنك ربما تعود بصفحات الرواية إلى الخلف لكي تتحقق من حدث عابر لا يمكنك بدونه أن تستوعب رد فعل أحد أبطال الرواية.

“هنية” في رواية “سماح” تربة مانحة، تعطي عن طيب خاطر، تطعم الأفواه الجائعة، وتستضيف جائعاً وافداً من خارج إطار العائلة، ولا تكتفي بذلك، بل تهب أحد أبنائها للتربة الأكبر، للجزائر، ولا تقنع بما قدمته، بل أنها تنتج مؤسسةً كاملة تدعى “سمراء”، تلك التي منها ينعطف الزمن الروائي انعطافته الأولى :

(( كانت “سمراء” شبيهة بأمها “هنية”.. كانت أجملهن.. تغنت النسوة بجمال شعرها الطويل وزرقة عينيها وبياض بشرتها، وعرفت بنشاطها المستمر إذ كانت تصنع بدل البطانية اثنتين أو ثلاثة في شهر واحد، كما تغرس بذور الخضر وتقطف الفواكه والغلال، وتجفف التين ليصبح وجبة جاهزة لفصل لشتاء البارد..كانت مضرب المثل ومبعث الاستغراب في خفة اليدين وهي تقضي شؤونها، حتى راحوا يعتقدون أنها تسخِّر الجن لخدمتها. ))

هذه هي “سمراء”، البداية الحقيقية للرواية، فمن حكايتها تبدأ الروائية في خبز عجين عملها الممتع، ومن واقع حالها نبدأ في استكشاف الخلل الأول في مجتمع لا يستسيغ الخلل، لكنه ينقاد إليه بحكم ظروفٍ قاهرة :
(( ها قد بلغت سن العاشرة وهاهم شبان حيها يتهافتون عليها طلبا للزواج. ))
زواجٌ مبكر، واقع حال تعاني منه الكثير من بلدان العالم الثالث، لكنه واقع تقود إليه عوامل البؤس والفقر والعوز، ولكي تسلط الروائية نور حروفها على هذه الظاهرة فهي تتعامل بمشرط جراحٍ مع تفاصيل هذا الاغتصاب العلني الذي يسمونه زواجاً بغير وجه حق :
(( لكن النصيب، كما يقولون، رسا بها على مرافئ رجل يكبرها بثلاثين سنة يدعى “عبد الله”، شفع له غناه، حيث كان صاحب ضيعة كبيرة ومواشي كثيرة، وبساتين ومنازل وأراضي واسعة في المكايل. ))
تمت الصفقة إذن، وبيعت “سمراء” إلى مغتصبٍ ثري، وبقدر ما كانت التفاصيل مقززة وفي غاية الألم، بقدر ما كانت “سمراء” قوية متماسكة، حتى أننا نعثر عليها في نهاية مطاف الوجع وقد أينعت من جديد :
(( أصبحت سمراء المفضلة بين زوجاته، ترافقه طول النهار من البيت إلى الحقول والمزارع، يريها أرزاقه الموزعة على أراضيه الشاسعة..يقضي معها أغلب ليالي الشهر مستمتعا بجمالها النادر. ))

إن زمن “سمراء” يبدأ الآن، ومعه تبدأ الصغيرة في تشكيل معالم الحدث، فهي تنجب أولاً ما سوف تحتاج إليه الأرض من بشرٍ يموتون من أجلها، ثم تقتل بيديها من خان عهد التراب، حتى ولو كان زوجها، أو “مغتصبها” بعبارةٍ أكثر واقعية وصدقاً .
يدور زمنها، هذه الأرض المتجددة، هذه الأنثى الولودة بشراً ورفضاً ورأياً وموقفاً، وكما يتكرر في أكثر من عصر من عصور هذه الرواية، فالحب هو من يبحث عن أبطالها، ولا يبحثون هم عنه، إنها تجد نفسها والعشق يعترض طريقها ذات يوم :

(( فاجأتها يد غريبة شدت على كتفها بحنان. فزعة سألت:
– من أنت أيها الغريب ؟
سلامتك أيتها الجميلة، دعيني أساعدك..
– لا،لا أستحق مساعدة أحد، ابتعد أيها الرجل، ارحل من هنا!
– انهضي إذن..
حاولت سمراء فك شعرها ،الذي غطى أكثر من نصف جسدها، من الأشواك لكنها فشلت.. جلس الرجل على الصخرة التي كانت قربها شيئا فشيئا خلص خصلات شعرها.
-أنا أرملة وأخاف كلام الناس ، ارحل أرجوك، دعني وشأني.
كانت سمراء مرتبكة خائفة خجلة من عراء جسدها أمام عيني الغريب
_هل تتزوجينني ؟
رفعها بين يديه كحمامة.
-أجيبي أرجوك هل تتزوجينني ؟ منذ ساعات وأنا أراقبك.. أحببت فيك كل شي.
– سأجيبك غدا، ارحل الآن.
– أين أجدك؟
_ في نفس المكان..هنا..
– ما اسمك ؟
– سمراء. ))

إنها تباشر دوران زمنها الثالث، فتتحول من أرملةٍ فخورةٍ إلى زوجة عاشقة، وهنا يكون للجزائر حضورها المتجدد من خلال المعشوق ” النمر القسنطيني”، ذلك الذي يشكل معها ثنائياً معبراً عن الانتماء للأرض والقتال من أجلها في وقتٍ واحد، لكن الزمن الرابع في الرواية يمضي كعادة كل زمنٍ بعيداً عن أصحابه الحقيقيين.
إن الرواية تمضي إلى زمن “خديجة”، وزمن “بثينة”، جيل الرواية الثالث، ومعهما تتشظى الرواية إلى أحداثٍ متداخلة، تبتعد ظاهرياً عن بعضها، لكنها في واقع الحال لا تغادر جغرافيا الانتماء إلى نفس القيم التي انتمى إليها الجيل المؤسس لمدرج الإهداء الأول .

ختاماً ..
يقول الأديب الأردني عاصف الخالدي :
((يمكن فهم الزمن الروائي من خلال حاجة الرواية إليه ))
وتبدو هذه العبارة السحرية وكأنها مفتاح نادر للولوج إلى كلمة سرٍ تبطنت سطور هذا العمل الجميل، فالرواية بالفعل احتاجت إلى كل ثانية مكتوبة في زمنها لكي تعبر على نحوٍ متكامل عن ما يدور في ذهن صاحبتها، تلك الأديبة التي تمكنت من الإمساك بحواسنا نحو تفاصيل روايتها متعددة الأزمان بمدرجات إهدائها الخمسة، وكأنها تشيد مدخلاً جميلاً لروايةٍ في منتهى الجمال .

سماح داود
اترك رد