مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

إنسانية

2

بقلم – عبد السلام هلال:
هذا الشاب الصغير إبني البكر ذو الستة عشر عاما ، يشبهني في أشياء كثيرة ، حتى حبه لمصر ، يعشقها كما أعشقها أنا ، يبدو دائما مشدودا لحديثي عنها وذكرياتي بها.
حكيت له قصتي عشرات المرات ، أنا محمد إبراهيم ، الشاب المهاجرالطموح منذ عشرين عاما ، وكان همه تعلم الإدارة وعمل يتيح له إكمال الدراسة .
كان لابد من العمل بالمطاعم ، كأنه لم يسافر أو يهاجر من لم يعمل بالمطاعم ، هذا رغم فقر خبرتي بالطعام سواء تناولا أو صناعة .
مشى الحال أخيرا ، تعلمت الطبخ وإعداد الطعام ، ومع التدرج الطبيعي أصبحت كبير الطهاة بالمطعم الكبير بالمدينة المتوسطة التي أقطنها .
مرت علي السنين بطيئة جدا ، أخذت من عمري عشرون سنة كاملة ، وزادتني أشياء مهمة جدا كحنيني لوطني وشوقي له وعشقي لترابه ، ولقب مصري الذي أضيف لإسمي .
ومع الأيام زاد العمر والوزن والحنين والمرض ، رغم بحبوحة العيش ونسياني الدراسة بعد إمتلاكي للمطعم وزيادة عبء إدارته علي .
مرض معدتي حير كثيرا ممن ذهبت لهم من الأطباء ، أشاروا علي جميعا بالذهاب له فهو من سيفهم حالتي جيدا .
حديث الذكريات بالعربية أثار إنبتاه كل من كان بالمركز الطبي ، تعلقت بنا كثير من العيون ، حتى حان موعد دخولي للطبيب .
بيتر شابروف خبيرالمناظير اليهودي المشهور ، سمعت إسمه وشاهدته كثيرا بالشاشات ، واثق بعلمه يتحدث بلغة جافة وتعالي كبير، يوجه حديثه لمن يهتمون بالطب، و لست واحد منهم لذا لم يجذبني أبدا .
فاجأني الرجل بطوله الفارع ، مع نحافة واضحة كعود قصب ممصوص ، يكتسي وجهه بلحية طويلة متدلية مجدولة ، يعتمر طاقية سوداء صغيرة في مؤخرة رأسه ، يغلب عليه سمت رجال الدين اليهودي ، رغم البالطو الأبيض والبنطال السكري الذين يرتديهما .
قرأ بطاقة دخولي وزادت معها جهامة وجهه لأقصى درجة ، مسلم ومصري إمتعض وسألني :
– هل تعرف من أنا وماهي توجهاتي ؟
تعجبت من سؤاله وأجبته بثقة
– نعم أعرفك تماما ، فشهرتك لا حد لها .
سألني بلهجة من يريد إفحامي ، كأنما يلقي بالضربة القاضية لأفكاري كلها :
– ولكن لماذا جئتني رغم علمك كل هذا ؟
قلت مبهوتا من سؤاله و ببساطة شديدة أذهلته :
– أنا مريض وأنت أفضل من يعالجني بشهادة كل المتخصصين ، وفي النهاية أنا إنسان وأنت إنسان ، ومهنة الطب إنسانية بالأساس ، وأنا أثق فيك كطبيب بغض النظر عن توجهاتك السياسية .
تغيرت تعبيرات وجهه وزالت جهامته ، لمحت نظرة رضا وزهوا ، بدا منتفخا كديك شرقي ، ثم بدأ في فحصي وأنا مستسلم تماما له ، وأخيرا إنتهي من عمله وبدأ يكتب ملاحظاته .
ناولني تقريرا عن حالتي وخطوات العلاج والجراحة ، دخلت السكرتيرة لتعطيني مظروفا ، كان به مبلغا من المال هو كل ما دفعته له ، مع بطاقة دخول مجانية لمركزه الطبي الفخم لعمل المنظار ، ذهلت مما يحدث ، ونظر لي إبني متسائلا .
أدرك تساؤلاتنا ورد بابتسامة رائقة .
– هذا للإنسانية التي تحدثت عنها يا صديقي .
أخذتني الدهشة بعيدا وكذلك مصريتي التي لعبت برأسي ، وإحترت كيف أتصرف .
رفضت أخذ المبلغ رغم أنه كان كبيرا جدا ، وتسائلت هل هو أكثر إنسانية مني .
أخذت أصر على رد المبلغ ودفع كافة التكاليف وهو يرد رافضا بابتسامته البسيطة ، وطال اللجج بيننا حتى استشاط غضبا قائلا :
– يا صديقي لقد أخذت من وقتي ووقت المرضى بالخارج ، هذا الوقت الذي ضيعته كان سيعود علي بضعف هذا المبلغ أرجوك إنصرف الآن ودعني لعملي .
– شكرا يا دكتور ، قلتها وإنصرفت أنا وإبني بلا تعليق .
نظرات إبني المدهوشة والمتسائلة ماذا أنا فاعل لم يكن لها ولا لأسئلتي إلا جواب واحد ، تبرعت بكامل المبلغ لجمعية إغاثة اللاجئين الفلسطينيين .

اترك رد