مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

أنور ابو الخير يكتب : رحلتى يا أمي

34

 

قد يهمك ايضاً:

الحرية المطلقة للأبناء 

أنور ابو الخير يكتب : عندما تسقط الأقنعة

اقترب موعد رحيلك ياترى هل يمكن أن تسعفك الأقلام والكلمات والسطور في كتابة ذكريات لأمك امتدت لسنوات طويلة من تربية وأخرى للتعليم وغيرها بالعمل والجد والكد ترى هل تستطيع أن ترد جميل لأمك بمجرد كلمات ستغدو في طي النسيان ترى وأنت المُلم والمتحكم في زمام اللغة من نحو وصرف وبلاغة وأنت الدارس لشعر وأدب فحول الشعراء أن تجد بعض المفردات التي تعبر عما يجيش في صدرك من الآلام الفراق والرحيل
فمهما حاولت أن تنقل للقارئ إحساسك بالحزن الشديد فلن تسعفك المعاجم بضخامة ألفاظها وفخامة معانيها فشعور الفقد لا يضاهيه شعور ومهما حاولت أن تغوص في بحور الكتب كي تستجدي الكلمات حتى تقف بجوارك وتنقذك من تلعثمك فتأكد وأنت القارئ لكتب فحول الأدباء وأمهات الكتب العربية ثم تعود بك الذاكرة لما يقارب أثناعشر عاماً ومنذ بدء رحلتها المرضية والحسرة على فقدان ابنآ من أبناءها أتذكرها في كل وعكة مرت بها لم أجدها إلا صابرة محتسبة قانعة بقضاء الله وقدره الحمد لا يفارق شفتيها كانت أمي عظيمة في نفسها عظيمة في عيون من حولها من يعرفها يتمنى المكوث بجوارها
وفي حقيقة الأمر عندما كنت أسمع خبر وفاة حد قريب من الأهل أو الجيران كنت كثير التساؤل عن شعور والد المتوفى أو أمه أو زوجته أو أخته أو كيف يعيش ويتعايش مع هذا الحزن المرير إلى أن وضعني الله في نفس الموقف ومررت فيه بنفسي إنه شعور الفقد إحساس مميت وشعور لا يمكن التعبير عنه أو اختزاله في كلمات أو حتى كتب ومجلدات إحساس يكشف لك مقدار تعلقك بالشخص المفقود الراحل فلم تكن أُما عادية كثيراً ما ارتميت في أحضانها باكياً شاكيا هم الحياة وألمها وضرباتها وما هي إلا لحظات وأجد نفسي خالية من أي ضيق أو وجع
أيقنت وتيقنت أن الموت هو الحقيقة التي ننكرها طوال الوقت لأن ببساطة الغياب يُفسر الشعور بكل صدق
عزيزي القارئ لك أن تعلم أن المرض حبس أمي أعواماً طويلة وعزلها عن الناس فهل تتخيل أن تظل حبيس بيتك لسنوات حبيس سريرك وحجرتك بعدما كنت شعلة من النشاط والحيوية فلا ترى الشارع إلا في حالة الذهاب لطبيب أو مركز أشعة أو ما شابه أتدري كيف تكون الحياة هكذا
على الجانب الآخر ولأنها أمي مؤمنة صابرة محتسبة إذا ما رأيتها وجدتها ضاحكة مستبشرة متفائلة مطمئنة راضية تردد الاستغفار ملازمة بالحمد والشكر لله وحده فالتسامح شيمتها والتسليم لقضاء رب العالمين وقدره عنوانها وهي في أوج محنتها وقمة مرضها تردد آيات الذكر الحكيم في كل الأوقات
يا أمي كلما أتذكر سهام المرض وهي تنهش في جسدك الطاهر وأرى كمية الرضا والصبر يملآن وجهك وقلبك لتلقنيني درساً عظيماً في التسليم والرضا يا أمي أتذكر تعرضي لوعكة صحية ألزمتني البقاء في السرير فبفضل الله وبدعواتك الطيبة يكتب الله لي النجاة من كل مرض كاد أن يهلكني ويجعلني عاجزاً بقية عمرى فأعطتني الأمل في الله أنني سأطرق الأرض مرة أخرى بقدمي على الرغم من حزني الذي ما دام أخفيته عنها ولكن هيهات إنه قلب الأم
يا أمي يبحثون عنك في كل مكان في الحجرة في المنزل ليتعلموا منك الحنان والطيبة والفطرة والتسامح فى هذا الزمان
يا أمي بيتنا أصبح غريباً منطفئا ذابلا لا طعم للحياة بدونك إنه شعور اليتم الذي لا أطيق تحمله وصدق من قال ماتت التي كنا نكرمك من أجلها فاعمل صالحا نكرمك من أجله أين في المحفل أمي يا رفاق
عودتنا ها هنا صوت الدعاء غيبها الموت هادم اللذات ومفرق الجماعات ولا حول ولا قوة إلا بالله
أتذكر في ليلة وفاتك جاءتني قبضة في القلب جعلتني أُلقنك الشهادة في أُذنيك وأستودعك عند الله ولكن الله لا راد لحكمه ولا اعتراض على قضائه ولأنها أمي فلم ولن أجد في حياتي مثلها فالنساء عندي اثنتان أمي وبقية النساء فكانت رحمة الله تعالى عليها تحب الخير للناس والجيران فلم تكن مثل النساء العنيدات التي تورث الغل والحقد والغيرة لأبنائها وأحفادها كل من عرفها دعا لها وحزن على مرضها وانتقالها للرفيق الأعلى ولأنها أمي إذا نظرت ولاحظتها تدخل إلى قلبك على عجل ففي وجهها خير لا ينتهي وإذا استمعت إليها وجدت نفسك أمام أم عظيمة فاضلة داعمة لسانها يلهج بالحمد والثناء على الله ولأنها أمي ومن الوهلة الأولى ولمن لا يعرفها تجده يبادرها بالحديث لما في وجهها من علامات الطيبة والصلاح فكانت رحمة الله تعالى عليها نقية السيرة والسريرة تتمتع بتسامح وراحة بال وتصالح نفسي لأبعد الحدود ولأنها أمي كانت رضي الله عنها بشوشة الوجه تتجسد في ملامحها الطيبة والإخلاص فيُحبها كل من يراها ويتعامل معها فكانت بحق مثالاً للتسامح والهدوء والسكينة ولأنها أمي فقد اصطفاني الله أن أكون لها خادماً ومجاورا لها طوال رحلة مرضها بما يقارب نحو عشرة أعوام ولأنها أمي فقد متعها الله بالشفافية وقذف في قلبها نوراً وصفاء منقطع النظير وأتذكر قولها لي قبيل الوفاة بأيام هموت وابقى تعالى زورني باستمرار وأنا على يقين بأن مكانتك عند الله عظيمة ولتعلمي يا أمي أن لا أحد في هذه الدنيا يعوض غيابك عني يا أمي سأظل أبكيك وستظل ذكراك في قلبي لا تغيب وأسأل الله أن أكون نائلا لرضاك وأن لا أكون قد قصرت بحقك ولأنها أمي فأنا لا شيء دون وجودها معي هل ستصدق عزيزي القارئ أنني أتحسس موضع جلوسها ومكان نومها كي أشم عبيرها الزكي
إذا كان الفراق صعبا ومؤلما والاشتياق وفراق الأحبة أصعب فإن فراق الأم مُوجع لدرجة أن عنده ترفع كل الأقلام وتجف كل الصحف فمن يملك أما يراها صباحاً مساء ويسمع صوتها لا يحق له الحديث بأي شكل من الأشكال عن الحزن
اللهم ارحمها واغفر لها بقدر شوقي إليها اللهم عطر قبر أمي برائحة الجنة اللهم أَنر لأمي قبرها واجعله فسيحاً مد بصرها واجعله روضة من رياض الجنة ووسع مدخلها وآنس وحشتها يا الله يا عفو يا غفار اللهم ارحمها فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض وأنزل نوراً من نورك عليها لها قبرها واغفر لها يا غفار وارحم أبى وأخواتي الذين سبقونا وأسكنهم جناتك يارب العالمين
رحم الله من سبقونا وألحقنا بهم على خير

التعليقات مغلقة.