مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

ألمانيا والمحطات النووية

0

بقلم الدكتور – على عبد النبى

تفهمت معنى العبقرية من مقولة الفيلسوف الألمانى الشهير “آرثر شوبنهاور”، والتى يقول فيها “إن الموهبة هى إصابة الهدف الذى لا يستطيع غيرنا إصابته، أما العبقرية فهى إصابة الهدف الذى لا يستطيع غيرنا رؤيته”، ومن منا لا يتذكر أن الفيزياء الحديثة تأسست على أيدى عباقرة الألمان “ألبرت أينشتاين – ماكس بلانك – فيرنر هايزنبرج – إرفين شرودنجر”.

الألمان لهم إسهامات عظيمة فى جميع المجالات ويكفى أن نذكر أنه فى القرن العشرين كانت ألمانيا أكثر دولة فى العالم حازت على جوائز نوبل فى العلوم (الفيزياء والكيمياء والطب)، ومن بين 80 ألمانى حائز على جائزة نوبل حتى الآن، هناك 68 حملوا هذه الجوائز فى مجالات العلوم الطبيعية والتطبيقية.

لم ينجح العالم الإيطالى “إنريكو فيرمى” عام 1934 فى تفسير نتائج تصويب النيوترونات على ذرة اليورانيوم، لكن فى عام 1938 تمكن العلماء الألمان “أوتو هان – ليز مايتنر – فريتنر ستراسمان” من تحليل المواد الناتجة عن التفاعل، وفى يناير عام 1939 استطاع كل من “أوتو هان وفريتنر ستراسمان” من تفسير التفاعل الذى حدث على أنه انشطار لنواة ذرة اليورانيوم. التقى كل من “أوتو هان وفريتنر ستراسمان” فى أمريكا مع العالم “أينشتاين” وابلغوه بنتائج أبحاثهما. وفى أبريل 1939 بدأ البرنامج النووى الألمانى، وتوسع ليضم مفاعل أبحاث نووى ومنظومة لإنتاج اليورانيوم والماء الثقيل.

وقعت ألمانيا وثيقة الاستسلام يوم 7 مايو 1945، مما أنهى الحرب العالمية الثانية فى أوروبا، وفى عام 1955 بدأت ألمانيا برنامجها النووى السلمى، وبمجرد دخول ألمانيا الغربية المجال النووى وقعت إقرار بتخليها رسميا عن انتاج أو حيازة أو استخدام الأسلحة النووية.

فى الفترة من 1956 إلى 1969 تم تأسيس العديد من مراكز الأبحاث النووية في ألمانيا الغربية، وتم تزويد معظم هذه المراكز البحثية وكذلك المعاهد والجامعات بمفاعلات نووية بحثية، وتم وضع مفاهيم دورة الوقود النووى المغلقة والتخزين النهائى للنفايات المشعة فى التكوينات الجيولوجية العميقة.

بدأت ألمانيا الغربية فى تطوير مفاعلات الماء الخفيف المضغوط PWR لتوليد الكهرباء بمساعدة من شركة “وستنجهاوس” الأمريكية، وتطوير مفاعلات الماء الخفيف المغلى BWR بمساعدة شركة “جنرال إلكتريك” الأمريكية.

وفى عام 1958 تم تشييد أول مفاعل نووى بحثى للطاقة  “VAK Kahl” من نوع BWR  بقدرة 16 ميجاوات كهربى وتم تشغيله سنة 1961، وفى نفس السنة بدأت ألمانيا فى تطوير مفاعل نووى “AVR Jülich” يعمل عند درجات حرارة عالية HTGR)) قدرة 15  ميجاوات وبدأ تشغيله عام 1967، وفى الفترة من سنة  1965الى 1970 بدأ تشييد مفاعلات ذات قدرة تتراوح من 250 الى 350 ومن 600 الى 700 ميجاوات كهربى.

وفى عام 1969 تم تأسيس شركة “كا فى أو” Kraftwerk Union KWU الألمانية، وذلك من دمج شركة “AEG” الألمانية وشركة  ” Siemens” الألمانية. حيث بدأ تشغيل أكبر مفاعل فى العالم “A-Biblis” عام 1974 ذات قدرة كهربائية 1200 ميجاوات. وفى عام 1988 تم تشغيل ثلاث مفاعلات ألمانية  تسمى “Konvoi” من نوع PWR ذات قدرة كهربائية 1300 ميجاوات. وبدأ الطلب على المفاعلات النووية الألمانية من دول العالم المختلفة. ومثال على ذلك: ففى هولندا تم تنفيذ مفاعل “Borssele” قدرة 482 ميجاوات وبدأ تشغيله سنة 1973، وفى الأرجنتين تم تنفيذ مفاعل “Atucha-1” قدرة 335 ميجاوات وبدأ تشغيله سنة 1974، وفى سويسرا محطة جوسجين “Gösgen” قدرة 970 ميجاوات والتى بدأ تشغيلها فى نوفمبر عام 1979.

انتهت الحرب العالمية الثانية بغزو الحلفاء لألمانيا، وسيطرة الاتحاد السوفيتى على برلين، والاستسلام غير المشروط من قبل ألمانيا فى 8 مايو عام 1945. وتنافست دول الحلفاء على الاستحواذ على مكونات الصناعة النووية الألمانية من العلماء والمتخصصين والفنيين والمعدات والخامات.

قد يهمك ايضاً:

تحليل سوات والحياة اليومية للمواطن

انور ابو الخير يكتب: لا شيء يستحق الحداد

بعد الحرب العالمية الثانية وفى عام 1955 بدأت ألمانيا برنامجها النووى السلمى. حققت ألمانيا طفرات من التقدم فى المجال النووى، وهذا ما هو متوقع من العقلية الألمانية. كيف يحدث هذا والمانيا دولة مهزومة فى الحرب العالمية الثانية ومحتلة، فهل يترك المارد يكمل طريق نشوته التى بدأها فى الخمسينات واستمرت فى الستينات، فالعيون كانت ترصد والقلوب ترتجف خوفا والشكوك تزايدت، فلابد من كبح جماحه.

بدأت الحركات المناهضة للطاقة النووية مع بداية السبعينيات، حيث نظمت مظاهرات مناهضة لبناء محطة نووية فى مدينة Wyhl، وفى عام 1975 احتل 28 ألف من المتظاهرين موقع بناء محطة Wyhl وتمكنوا من وقف البناء، واستمرت حتى كان قرار المحكمة الإدارية فى 21 مارس 1975 بسحب رخصة بناء المحطة النووية. واستمرت المعارضة والاحتجاجات العنيفة ضد المحطات النووية وفى مواقع العمل، وانتقلت الاحتجاجات للمحطة النووية Brokdorf  قدرة 1480 ميجاوات كهربى والتى دخلت الخدمة فى أكتوبر .1986 كما استمرت الاحتجاجات الشعبية فى التسعينيات، وكان معظمها ضد نقل حزم الوقود النووى المحترق من والى مرافق معالجة النفايات ومواقع تخزين النفايات المحتملة. بعد ذلك انتقل الصراع وأصبح على المستوى السياسى الرسمى.

نهج سياسى متناقض؛ نتيجة للصراعات السياسية بين الأحزاب الألمانية. خلال العقد الماضى وضع السياسيون الألمان خطة للحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحرارى، السياسين أرادوا التحرك بعيد عن توليد الكهرباء من موارد الطاقة الاحفورية، لكنهم فى نفس الوقت تحركوا نحو إغلاق جميع المحطات النووية بحلول عام 2022، وهى طاقة خالية من الكربون. ألمانيا كانت سخية فى دعم هذه السياسة، ومع أن هذه السياسة قد خلقت طريقا رائعا لموارد الطاقة المتجددة، الا انه نظرا لان هذه الطاقة غير مستدامة، فقد ترتب على ذلك مشاكل لجميع المستهلكين وخاصة فى الصناعة، وخلقت خللا فى اسواق الطاقة، مما أدى الى زيادات كبيرة فى أسعار الطاقة لمعظم المستخدمين.

فى أعقاب حادثة محطة الطاقة النووية “ثرى مايل أيلاند” فى أمريكا فى 28 مارس عام 1979، خرج حوالى 200 ألف شخص الى الشوارع فى هانوفر وبون، متظاهرين ضد الطاقة النووية. تبع ذلك مزيد من الاحتجاجات حين تم النظر فى مواقع معالجة النفايات المشعة وتخزينها. وكانت كارثة “فوكوشيما” النووية فى اليابان فى 11 مارس2011   بمثابة القشة التى قسمت ظهر البعير، فقد أعطت الفرصة للسياسيين باستعجال تنفيذ قرارات الإغلاق التدريجى للمحطات النووية، فهو رد فعل للذعر الذى أصابهم.

قرار الإغلاق التدريجى لمحطات الطاقة النووية فى ألمانيا واستبدالها بمصادر الطاقة المتجددة لم يكن سببه كارثة “فوكوشيما” النووية فى اليابان فى 11 مارس2011 . فقد سبق هذه الكارثة اغلاق “قسرى” لمحطات طاقة نووية فى ألمانيا وهو ما أطلقت عليه مسمى “مذبحة مفاعلات الـ VVER”.

مذبحة مفاعلات الـ VVER؛ محطات الطاقة النووية من نوع VVER-440 هى من الجيل الثانى، وكان بعض من هذه المفاعلات متواجدة فى ألمانيا الشرقية. ومع بداية إعادة توحيد ألمانيا فى 3 أكتوبر عام 1990، تمت عمليات تقييم شاملة لأمان المحطات النووية روسية الصنع من نوع “VVER” طبقا للأكواد والمعايير الألمانية الغربية، وأظهرت هذه التحليلات أن هناك بعض الحيود عن متطلبات السلامة النووية المتبعة في ألمانيا الغربية، وهذا طبيعى لاختلاف الأكواد الغربية عن الشرقية. نتج عن ذلك أن تم إغلاق عدد 5 مفاعلات فى موقع Greifswald ، قدرة المحطة الواحدة 440 ميجاوات، وكانت هذه المحطات قد أمضت فى الخدمة 16 سنة فقط (العمر التشغيلى للمحطة 40 سنة)، كما تم إيقاف تنفيذ عدد 3 مفاعلات فى نفس الموقع ومن نفس النوع ونفس القدرة الكهربائية، وكذا تم إيقاف تنفيذ عدد 2  مفاعل فى موقع Stendal، بقدرة كهربائية اجمالية 2000 ميجاوات، وحول هذه المذبحة علامة استفهام كبيرة، ولا تستحق المفاعلات الروسية أن تذبح بهذه الطريقة.

المفاعلات الروسية من نوع VVER-440 مشهود لها بالكفاءة وهى تعمل حتى هذه اللحظة، وهى متواجدة فى روسيا وخارج روسيا، ومثال على ذلك يوجد فى المجر عدد أربعة مفاعلات PAKS1-4 شغالة، وقدرة المحطة الواحدة 470 ميجاوات، وفى سنة 1996 قامت ألمانيا ببيع 235 حزمة وقود نووى جديدة من مفاعلاتها التى تم اغلاقها الى دولة المجر لكى تستخدمها فى مفاعلاتها.

هناك عنصر هام  فى الحرب التي شنتها الحكومة الاتحادية ضد المحطات النووية خلال الفترة من عام  1999الى عام 2000، وهو صدور قانون بأثر رجعى لجمع ضرائب قيمتها 50 مليار مارك ألمانى من المشتركين ومستخدمى الكهرباء، وهو بغرض الصرف على إدارة النفايات النووية وتكهين المحطات النووية وإعادة تأهيل مناجم الفحم البنى “فحم الليجنيت”، وردا على ذلك وعلى وجه السرعة تقدمت الشركات المالكة للمحطات النووية بما يفيد أن هذا العمل يمكن الطعن فيه لأنه “خرق صارخ للحقوق الدستورية الألمانية والمبادئ القانونية”، وعلى الرغم من اعتراض المستشار “جيرهارد شرويدر” فى مجلس الوزراء على هذا القانون، إلا أنه تمت الموافقة على الضريبة من قبل المجلس الفيدرالى فى اليوم الأخير.

حكومة المستشار “فيلى برانت” (من 1969 الى 1974)، كانت تقدم كل الدعم للطاقة النووية. حكومة المستشار “هيلموت شميت” (من  1974الى 1982)، كانت تدعم الطاقة النووية. فى فترة حكومة المستشار “هيلموت كول” (من 1982 الى 1998)، انهارت سياسة دعم وتأييد الحكومة للطاقة النووية بسبب كارثة محطة “تشيرنوبل” فى أوكرانيا عام 86، ففى أغسطس عام 1986 كان قرار الحكومة “التخلص من الطاقة النووية خلال عشر سنوات”. فى فترة حكومة المستشار “جيرهارد شرويدر” (من  1998الى 2005)، وافقت الحكومة على تغيير “القانون النووى” حتى يمكن التخلص التدريجى من المحطات النووية. حكومة المستشارة “أنجيلا ميركل” (من 2005 وحتى الأن)، بدأت عودة الروح للطاقة النووية، وبدأت الحكومة بإلغاء سياسة التخلص التدريجى للمحطات النووية. لكن كل هذه الترتيبات أصبحت موضع شك بعد كارثة “فوكوشيما” فى اليابان فى 11 مارس 2011. ففى يوم الثلاثاء 15  مارس 2011 أعلنت “أنجيلا ميركل” إغلاق مؤقت (وقف اختيارى لمدة ثلاثة أشهر) لسبعة من محطات الطاقة النووية فى ألمانيا، وعلى أن تكون البداية بإغلاق المحطات التى انشأت قبل عام 1980، فى حين يتم إجراء مراجعة عاجلة للأمان لهم. لكن فى أغسطس 2011  اتخذت الحكومة الاتحادية قرار بإغلاق 8 محطات إغلاق طويل الأجل، على أن تظل 9 محطات فى التشغيل بإجمالى قدرة كهربائية 12.7 جيجاوات.

حتى مارس 2011، كانت المحطات النووية الألمانية تشارك بنسبة 25% فى توليد الكهرباء من تشغيل 17 مفاعل نووى (6 مفاعلات من الماء الخفيف المغلى، و11 مفاعل من الماء الخفيف المضغوط)، جميع هذه المفاعلات نفذت بواسطة شركة “كا فى أو” KWU وشركة “سيمنز”Siemens . والآن وبعد قرارات الإغلاق التدريجى للمحطات النووية، أصبحت المحطات النووية تشارك بنسبة 13% من تشغيل 7 مفاعلات نووية (مفاعل واحد من الماء الخفيف المغلى و6 مفاعلات من الماء الخفيف المضغوط)، وبقدرة اجمالية 9.5 جيجاوات، ومحطات الغاز الطبيعى تشارك بنسبة 13%، ومحطات الفحم تشارك بنسبة 42%. لا توجد خطة لإغلاق محطات الفحم مع أن هذه المحطات تتسبب فى وقوع أضرار جسيمة على البيئة وتضع ألمانيا فى المرتبة الأولى فى انبعاث غاز ثانى اكسيد الكربون فى اوروبا. بخلاف ذلك فإن مزيج موارد الطاقة لإنتاج الكهرباء فى ألمانيا يضم طاقة الرياح والطاقة الشمسية والبترول والكتلة الحيوية والطاقة المائية. ألمانيا تعتبر من أكبر دول العالم فى استيراد الغاز الطبيعى والفحم والبترول.

اشكركم ، والى أن نلتقى فى مقالة أخرى لكم منى اجمل وارق التحيات.

 

 

اترك رد