مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

قصة قصيرة: الجسر

8

بقلم – هادية حساني “تونس”

قد يهمك ايضاً:

أهيم بطيفك

بدت واثقة،متمكنة،شرحت أطروحتها باطناب،أجابت عن كل أسئلة اللجنة، أما هو فجالس بآخر مقعد، تطوح به أحاسيس وهواجس مبهمة متضاربة، هي مزيج من خوف واضطراب وفرح وحزن..
حانت اللحظة الرهيبة، فساد الصمت،صدره يكاد ينخلع..
«قررت اللجنة بالاجماع منحك شهادة الهندسة بملاحظة ممتاز »
لم يعر اهتماما لهيبة المكان، قفز كالمجنون، متخطيا الصفوف وسط الرقاب الملتوية، الجميع مشدوهون ! صعد المنصة، ضمها بعنف محاولا أرجحتها لكن وزنها وذراعيه خذلاه، دار بها عدة دورات، فماجت القاعة من حوله، كأنه يحلم..انهالت عليه الصور كشريط لا نهاية له..
جرجرته كخرقة في ذلك الفجر الأغبش،الذي مازال أعشى يطل من النوافذ، قضى اياما عصيبة، بطعم الحنظل، بيد انه صمد صمود الأبطال، مثل كل رفاقه من مساجين الرأي الذين عشقوا البلاد ونسائم الحرية، ظل اصلب من جلمود، امام اصرارهم على اعترافه، تفننوا في تعذيبه، لكن عزيمته لم تفل، كان متاكدا من انتصاره، والحلم الذي رآه هو أكبر دليل ! نعم الحلم !
احيانا يخاطبه صوت من أعماقه :
– أليس ضربا من الجنون ان تواجه اعتى الجلادين، هؤلاء الوحوش الضارية بمجرد حلم !؟ تتحدى عش الدبابير بحلم يا ناجي !؟ اي مفارقة هذه !؟
-نعم أتحداهم، وساخرج لاجل حبيبتي !
في تلك اللحظات السوداء، تعلم كيف يترك لهم جسده، و يرحل بخياله الحر، نعم خياله !؟ لم يكن يملك سلاحا غيره ! حتى عند غيابه عن الوعي، كانت معه في اللاوعي..
هي مجرد صورة مقتطعة من مجلة، تشبه حلمه، الصقها على جدار غرفته بالمبيت الجامعي، وببيتهم في قريته النائية، ثم رسمها بدمه على جدار زنزانته الموحشة..
حلم بها طفلة بهية، وجهها كالبدر، تغازله في النوم واليقظة، صارت حياته، عالمه الوردي، اختار لها اسما، حكى عنها لأمه..قالت:
– حلم جميل! خير يا وليدي، بشرى خير، البنت هي الدنيا ! الدنيا ستضحك لك !
وانتقل الحلم لأمه، فامتلات املا وفرحا..
اعتقلوا أغلب رفاقه، فأحس أن دوره اقترب، فمد لها الصورة، وكانه يسلمها ابنته فعلا :
-حافظي عليها !
نظرت اليه مغالبة دموعا وعبرة خنقتها فخرج صوتها بنزق :
لا تخف ! تمسك بحلمك هو أملك !
دستها في صدرها حتى عاد اليها..ورغم طرده من وظيفة التعليم، لم ييأس،وازداد تشبثا بحلمه الأكبر، انجاب بنوتته الرائعة !
و غدا حلمه يكبر ويكبر..
حتى صار حقيقة..
يرفعها الى أعلى، ينزلها على كتفيه وصدره، يعانقها، فتنتابها هستيريا ضحك وهي تأرجح رجليها، خوفا أن تسقط، لن تكبر في نظره أبدا، حتى وهي شابة تجاوزت العشرين، ستبقى طفلته المدللة..
تجلس على ساقيه، وترتمي في حضنه، فعلا طفلة لم تتغير ! تذكره بحضن المرحومة أمه، وحبها الذي فاق الوصف، يرفع عينيه يراها شامخة في «حرامها» الأحمر تحت نخلتهم، وهي تبتسم اليه، ينسحب من هيفائه بسرعة، يصل النخلة بلمح البصر، لا وجود لأمه، كانت سرابا، لكن آثار قدميها الحديثة مرسومة على الأرض بوضوح، نعم هي ! لا يمكن أن يخطئها باصبعها الأكبر المفقود في القدم اليسرى الذي بتر يوم رمت بنفسها في البئر لانقاذه، مد يده ليتأكد من وجودها، خط فوقها فعلا هي حقيقة وليست خيالا، ركض في أطراف الحقل باحثا عنها، لكن لا اثر لها، بيد أنه يشعر بوجودها في كل شيء…

اترك رد