مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

فاطمة…

7

بقلم – ليلى المورانى:
نص من مجموعتي القصصية ( وشمٌ في ذاكرتي )، الصادرة عن دار المختار للنشر والتوزيع في القاهرة

قد يهمك ايضاً:

صدرت الأوامر برفع صور الرئيس شبه المخلوع، من على جدران الصفوف، ومكانها تتربّع صور الرئيس الجديد. في غرفة الصف الثالث متوسّط، وقفت المدرّسة متعبةً والعرق يتصبّب منها، كان يوماً قائظًا، وبطنها منتفخةً تكاد تنفجر ويخرج منها الجنين، وثلاث طالباتٍ اختارتهن لتنظيف الصفّ، ورفع صورة الرئيس السابق. في متوسّطة الوفاء للبنات، في أحد أزقّة حيٍّ قديم من أحياء بغداد الفقيرة، حيث المجاري تخرج من كلّ البيوت لتصبّ المياه القذرة في الأزقّة الضيّقة، يلعب ويتقاذف بها الأطفال وهم يضحكون.
في ذلك الحي القديم، تسكن عوائل معدمة في بيوتٍ عتيقة يكاد بعضها يتهاوى، تكثر فيه معامل صنع الراشي التي يعمل فيها بعض رجال الحيّ.
الصفوف مكتظّة بالطالبات، بعضها يتجاوز أربعين طالبة، تجلس بعضهنّ على الأرض، يحتضنّ اللوحة المتهرئة التي استحال سوادها إلى بياض. انهمكت اثنتان في تنظيف غرفة الصف، علا الغبار وأثار حسّاسيّة الست فوزية، وانتابها عطاسٌ مستمرّ، جعل جنينها يرفس في بطنها حتى كاد يمزّقه.
فاطمة، بنت الخامسة عشرة، هادئة، عيناها تشعّان ذكاءً، اختيرت فارسة الصف لتفوّقها، عليها أن تقوم بمهمّة تبديل مواقع الصور. نظرت في عيني الرئيس المخلوع وهي تبتسم بشماتة، عيناه مطفأتان، وابتسامة خاوية، مسروقة ترتسم بوهنٍ على فمه. قفزت أمامها صورة أخيها الكبير، اقتيد ليلاً، قالوا أنه ينتمي إلى تنظيمٍ خطير، ولم يسمعوا عنه شيئاً بعد ذلك. عائلةٌ فقيرة بالكاد يسدّ رمقها أبٌ يعمل في أحد مصانع الراشي، وأمٌّ تبيع المكانس والمهافيف التي تصنعها من جريد وسعف النخيل اليابس، وستة أبناءٍ آخرون، وحلمٌ أن تصبح مدرّسةً مثل الست فوزية التي تكنّ لها كلّ حبٍّ واحترام.
أنزلت الصورة، ضاحكةً وهي تسأل..
ـ ست، ماذا أفعل بها؟ هل أرميها في سلّة المهملات؟.
هل سمعتها الست فوزية التي كادت تختنق فوقفت في باب الصف، تستنشق نسمة هواء؟.
الطالبتان الأخريتان، منهمكتان في التنظيف.
صبيحة اليوم الثاني، وجومٌ ثقيل يخيّم على وجوه الطالبات حين دخلت الست فوزية. أدارت بصرها بين الوجوه الباكية، سقطت نظراتها على مكان فاطمة الشاغر، وصديقتها مطأطئةً رأسها..
ـ أين فاطمة؟.
سألت، بيدٍ مرتجفةٍ قدَّمت الصديقة الحزينة وردة جوري حمراء ذابلة..
ـ هذه من فاطمة بعثتها لك يا ست.
ـ وأين هي؟.
ـ فجراً أخذوهم بملابس النوم وهم يتباكون، سفّروهم.. هم تبعيّةٌ.
لم تتمالك نفسها، بكت الست فوزية، شاركتها الطالبات..
بعد يومين، صدر قرارٌ بنقل الست فوزية، مدرّسة اللغة العربيّة، إلى قسم الحسابات في مديريّة التربية.

 

اترك رد