مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

الردع النووي

9

بقلم – الدكتور على عبد النبى:

بدايةً، وحتى يتسنى لنا تبسيط موضوع المقال فإننى استرشد بقول المولى تبارك وتعالى فى سورة البقرة {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين} صدق الله العظيم – سورة البقرة الآية 251. إن الحق يأتى هنا بقضية كونية فى الوجود، وهى أن الحرب ضرورة اجتماعية، وأن الحق يدفع الناس بالناس. وأنه لولا وجود قوة أمام قوة لفسد العالم؛ فلو سيطرت قوة واحدة فى الكون لفسد.

والأسلحة النووية هى أحد أسلحة الدمار الشامل مثل الأسلحة البيولوجية والأسلحة الكيميائية، وهذه الأسلحة تتفاوت فى أضرارها وشدة تدميرها، وهى محرمة دوليا، لأنها تؤدى إلى إحداث أضرار خطيرة لجميع أشكال الحياة المتواجدة على كوكب الأرض.

القوة التدميرية للسلاح النووى تعتمد على عملية الانشطار النووى أو الاندماج النووى، والقوة التدميرية لقنبلة نووية صغيرة تفوق بكثير القوة التدميرية لأضخم القنابل التقليدية، وتتمتع بعض الأسلحة النووية بقدرة دمار هائلة، من شأنها إزالة مدينة بكاملها من الوجود، وقتل مئات الآلاف، وتعريض حياة الأجيال القادمة للخطر من خلال الأضرار التي تلحقها بالبيئة على المدى البعيد، ومثال على ذلك،  ما حدث  لمدينتى “هيروشيما” و”ناجازاكى” اليابانيتين، إبان الحرب العالمية الثانية عام 1945. ويشكل التسابق نحو التسلح والرغبة فى امتلاكها وتطويرها، خطرا حقيقيا على مستقبل البشرية.

بداية الردع النووى كان بعد تدمير مدينتى “هيروشيما” و”نجازاكى” بالقنابل الذرية فى 6 و9 أغسطس 1945، حيث تولد الخوف والرعب نتيجة الأهوال التى صاحبت هذا العمل الدنئ، فهى جريمة اهتز لها ضمير البشرية، وحتى يومنا هذا لاتزال مظاهر الرعب والهلع التى نتجت عنها تفوق التصور الإنسانى. كان هدف أمريكا هو كسب الحرب، لكنها أيقنت بعد ذلك أنها لن تعيد الكرة مرة أخرى وأن هدفها الرئيسى أصبح تجنب استخدام الأسلحة النووية فى الحروب. لاتزال “هيروشيما” و”ناجازاكى” هما الضحيتان الوحيدتان لهجوم نووى مباشر.

إبان الحرب الباردة  انخرطت الدول النووية فى سباق تسلح نووى مكلف ومدمر للاقتصاد، على سبيل المثال: نجد أن الرئيس الأمريكى “ريجان” كان يصف الاتحاد السوفييتى بـ “إمبراطورية الشر” وقاد حملة تسليح نووية ضخمة، إلا أن الرئيس الروسى “جورباتشوف” فطن إلى هذه اللعبة المدمرة لاقتصاد بلاده، وتعهد بإيقاف سباق التسليح الذى صار يثقل ميزانية السوفييت.

“والردع” بمعناه اللغوى هو الكف والمنع، والردع النووى بهذا المفهوم يعنى منع طرف لطرف آخر من مهاجمته أو مهاجمة أسلحته النووية، وأن تظل الترسانة النووية لكل طرف غير معرضة للهجوم، أو تكون قدراتها النووية كافية لمنع مثل هذا الهجوم في المقام الأول، من خلال الوعد بالانتقام والتدمير المتبادل المؤكد mutually assured destruction MAD، لذلك فإن الردع النووى الناجح يتطلب أن تحتفظ الدولة المستهدفة بقدرة انتقامية على الرد، من خلال ضمان قدرتها على توجيه “ضربة ثانية”. إلا أنه مع مرور الوقت، أصبحت الصواريخ النووية أكثر دقة، مما أثار المخاوف بشأن قابلية هذه الأسلحة للتعرض لضربة “مضادة “. باختصار، أصبحت الدول النووية قادرة بشكل متزايد على استهداف أسلحة الخصم النووية الخاصة به من أجل تدميرها.

هناك 9 دول تحتكر السلاح النووى، وحسب إحصائيات عام 2016 فإنهم يمتلكون أكثر من 15 ألف و395 رأس نووى، و93% من الرؤوس النووية بحوزة أمريكا وروسيا، أمريكا تمتلك أكثر من 6800 رأس نووى، وروسيا تمتلك أكثر من 7000 رأس نووى. وحسب إحصائيات عام 2017 ، فقد تراجع العدد الى 14 ألف و 935 رأس نووى.

أعتقد أن هذه الأعداد المهولة من الرؤوس النووية (أكثرمن 14 ألف رأس نووى) قد تراكمت فى فترة الحرب الباردة نتيجة لسببين؛ السبب الأول: هو الجهل بالتقديرات المطلوبة لشن حرب نووية وتلقى “الضربة الأولى” ثم الرد بـ “الضربة الثانية”، حيث كانت لا توجد لأى من الأطراف طريقة لدى القادة المدنيين أو العسكريين تؤدى إلى معرفة ما يكفى من القوة النارية النووية لتلبية متطلبات وجود “رادع فعال”، وأعتقد أن الفرضية التى اعتمدوا عليها هى أن العدو لا يمكن ردعه بسهولة وأنه سيقوم بهجوم مضاد، وأن هناك عناد مستحكم بين الطرفين للقضاء على الطرف الآخر وإفنائه دون اكتراث بالخسائر فى الأرواح، ونتيجة لهذه الفرضية أصبح الطريق مفتوحا لامتلاك أكبر عدد من الرؤوس النووية. السبب الثانى: أنه من المفضل لوزارات الدفاع فى البلاد النووية ألا تتوقف عن العمل فى المشاريع النووية، نظرا للمكاسب الكبيرة التى ستعود عليها وعلى المصانع والمقاولين التابعين لهم، وأن تكديس الأسلحة النووية لا يعنيهم فى شئ، وهو تحت بند أن تصميم وإنتاج ونشر “أجيال” جديدة من الأسلحة النووية يؤدى إلى التقدم التكنولوجى. لدرجة أن العسكريين يريدون وضع أسلحة نووية فى الفضاء الخارجى. لهذه الأسباب فإن الحقيقة حول نظرية الردع النووى ستبقى غامضة.

ومن هنا نتساءل: هل الردع النووى هو الطريق السليم لمنع استخدام الأسلحة النووية ؟. ظاهريا هو يوحى بذلك، لكن على أرض الواقع نقول “لا”، لأن الطريقة الوحيدة للتأكد من عدم استخدام الأسلحة النووية هى التأكد من عدم وجود هذه الأسلحة.

هناك ضمانات أمنية طورتها أمريكا وروسيا على مدى سنوات طويلة لمنع حدوث حرب نووية عن طريق الخطأ أو عن طريق سوء تقدير أو عن طريق إطلاق غير مصرح به لرؤوس نووية. لكن الدول النووية الجديدة تفتقر إلى هذه الضمانات الأمنية، كما أن هناك خوف من حصول الإرهابيين على أسلحة نووية عن طريق السرقة أو الشراء أو صنعها. فمن المفترض أن يكون الأشخاص المخول لهم قرار استخدام الأسلحة النووية هم من الأشخاص العقلانيين المتزنين، ولابد من أن يكونوا من نوعية الشخصية التى ستبقى هادئة وأيضا إدراكيا غير مضطربة تحت ظروف مجهدة للغاية. لكن رؤساء الدول النووية ليسوا محصنين ضد الأمراض العقلية، فقد يصاب الرئيس بمرض عقلى ويستخدم السلاح النووى، وهنا ستصبح العواقب أكثر بشاعة لا يمكن تخيلها، وقد يؤدى هذا إلى قيام حرب نووية شاملة وتفنى معظم الكائنات الحية من على سطح كوكب الأرض.

فى عام 1995 حددت أمريكا سياسة الردع النووى الأمريكية فى فترة ما بعد الحرب الباردة فى وثيقة بعنوان “أساسيات الردع بعد الحرب الباردة”. ذكرت الوثيقة أن سياسة الردع النووى تجاه روسيا لا تزال تتبع النهج التقليدى للردع النووى المتبادل mutual nuclear deterrence MAD، وأن سياسة الردع الأمريكية تجاه الدول ذات القدرات النووية الصغيرة، يجب أن تضمن من خلال التهديدات بالانتقام الهائل، من أن هذه الدول لا تهدد أمريكا أو مصالحها أو حلفائها. وتوضح الوثيقة أنه يجب استخدام مثل هذه التهديدات لضمان امتناع الدول التى لا تمتلك تكنولوجيا نووية عن تطوير أسلحة نووية، وأن الحظر الشامل يمنع أى دولة من الاحتفاظ بأى من الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية.

قد يهمك ايضاً:

أنور ابو الخير يكتب: أحلام ضائعة

الاستمتاع بنعمة البصر ودلالته الفسيولوجية

ونرى أن الأسلحة النووية كوسيلة للردع لم تمنع أى نوع من أنواع الحروب الأخرى، كما أنها لم تمنع الهجمات الإرهابية. هناك أمثلة كثيرة، نسرد بعضها للتوضيح، فالأسلحة النووية الأمريكية لم تردع شعب فيتنام وخسرت أمريكا حرب فيتنام، كما أنها لم تردع الهجمات الإرهابية على أمريكا فى 11 سبتمبر 2001. وأسلحة الاتحاد السوفييتى النووية لم تردع الشعب الأفغانى وانسحب من أفغانستان. وأسلحة بريطانيا النووية لم تردع مصر وتمنعها من تأميم قناة السويس عام 1956، ولم تردع الأرجنتين وتمنعها من احتلال جزر فوكلاند عام 1982. وأسلحة إسرائيل النووية لم تردع مصر من عبور قناة السويس عام 1973، وتحقق أعظم انتصار حربى فى العصر الحديث، ولم تمنع هجمات العراق على مدن إسرائيل بصواريخ سكود عام 1991.

وخلال الحرب الباردة، كان رأى جنرالات الناتو أن الدول الأوروبية متاخمة لبعض، وأن المدن فى الدول الأوروبية متقاربة جدا، فمن الصعب الدفاع عن أوروبا بأسلحة نووية، بمعنى أنه سوف يدمرها. فإذا كان هذا هو رأى الجنرالات عن أوروبا، فهناك تشابه بين اوروبا وبين الشرق الأوسط، وهذا المنطق ينطبق على من يمتلك أسلحة نووية فى الشرق الأوسط، ونقول أنه من الصعب على دول الشرق الأوسط الدفاع عن نفسها بالأسلحة النووية لأن من سيستخدمها لن يكون بمنأى عن التضرر منها.

ويرى المدافعون عن الردع النووى أنه كان السبب الرئيسى فى تجنب حرب عالمية ثالثة، وأن الردع النووى قد منع الاتحاد السوفييتى من غزو أوروبا الغربية. ونحن نقول: أن الردع النووى لم يمنع تفكك الاتحاد السوفييتى نفسه عام 1991 واستقلال جمهوريات الاتحاد، بل وذهب بعضهم وتحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية.

الردع النووى لا يستطيع فعل شئ طالما لا توجد رغبة لدى كل من أمريكا وروسيا لشن حرب نووية، وهو استمرار لما كان عليه الحال قبل العصر النووى، فلم تتقاتل أمريكا وروسيا من قبل. وبذلك فقد ساد السلام بين القوتين العظميين لمجرد أنه لم يكن لديهم خلاف يبرر خوض حرب مدمرة بشكل رهيب، حتى ولو كانت حربا تقليدية. كما لا يوجد أى دليل يدل على أن القيادة الروسية تفكر فى أى وقت فى محاولة لغزو أوروبا الغربية.

على أرض الواقع وعلى الرغم من أن فكرة الردع النووى لا تزال مؤثرة فى العلاقات الدولية، إلا أنه لم يحقق شيئا حتى الآن ولن يحقق شيئا فى المستقبل، بل إنه فقد مصداقيته. ففى ظل وجود الردع النووى تنتشر الحروب فى بقاع الأرض وينتشر الإرهاب. بذلك فقد أصبح الردع النووى استراتيجية مزعومة، وهو لا يخرج عن كونه خرافة يتحاكى بها الناس، وأن الردع النووى أصبح المبرر الوحيد للدول للحصول على أسلحة نووية وهى تدعى أنه لردع الهجمات التى سوف تتعرض لها من خلال تهديدها بالانتقام الكارثى.

وأصبح واضحا لدى أمريكا وروسيا ولجميع الدول التى تمتلك أسلحة نووية استراتيجية، أن الأسلحة النووية الاستراتيجية لم ولن تستخدم. معاهدة ستارت-1 ومعاهدة ستارت الجديدة، هى معاهدات ثنائية بين أمريكا وروسيا على الحد من الأسلحة النووية الهجومية الاستراتيجية، وأهم البنود هو تخفيض الحدود القصوى للرؤوس الحربية النووية الهجومية للبلدين. والتخفيضات فى مخزون الأسلحة النووية إلى الحد الذى لا تصبح فيه الدولة ضعيفة، فهناك حد أدنى للردع النووى، والتخفيضات التى تتجاوز هذا الحد تزيد من ضعف الدولة وتوفر حافزاً للخصم للتوسع فى الترسانة النووية سراً.

انتقد الفيلسوف الفرنسى “بول فيريليو” الردع النووى، باعتباره عفا عليه الزمن فى عصر حرب المعلومات، لأن المعلومات المغلوطة هى التهديدات الحالية للبشرية، وقال: إن الردع الأول، هو الردع النووى، يحل فى الوقت الحاضر محل الردع الثانى: وهو نوع من الردع يعتمد على ما أسميه “قنبلة المعلومات” المرتبطة بالأسلحة الجديدة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

وهنا يأتى السؤال: ماذا ستصنع الدول النووية بمخزون هذه الأسلحة، وهى تعلم مدى الخسائر المادية التى تتكبدها نتيجة تخزين هذه الأسلحة ؟. الجواب: هناك جزء من المخزون سيتم التخلص منه طبقا للمعاهدات، وسيتم الإبقاء على الحد الأدنى من عدد الرؤوس النووية والتى تتيح الردع النووى الاستراتيجى، ثم تحويل الجزء المتبقى إلى أسلحة نووية صغيرة (تكتيكية). ونتيجة لذلك فقد اتجهت كل من أمريكا وروسيا إلى تطوير أسلحة نووية تكتيكية أصغر حجماً وأكثر دقة تكون أكثر قابلية للاستخدام مباشرة فى ساحات المعارك الحربية، وبالتالي سيكون توظيف هذه الأسلحة فى الأزمات أكثر مصداقية.  وهذا ما أعلنه “ترامب” الأمريكى، من أن الولايات المتحدة ستنفق قرابة 400 مليار دولار لتطوير وتعزيز برنامجها النووى فى الفترة بين 2017 و 2026.

طالما أن المعارك الحربية سوف تدار بالقنابل النووية التكتيكية، فهى دعوة عالمية لكى تمتلك جميع جيوش دول العالم لهذا النوع من القنابل، وسيصبح من حق الدول امتلاك أسلحة نووية تكتيكية، والذى بدوره سوف يزيد من مخاطر إساءة تقدير استخدام هذه الأسلحة، فقد ينطوى على خطر أكبر يتمثل فى تصعيد النزاع إلى ما وراء حدود جبهة القتال، والتى من شأنها أن تشعل حربا نووية باستخدام الأسلحة النووية الاستراتيجية. كما أن نشر قنابل نووية تكتيكية قد يكون تشجيعاً خطيرا للحرب النووية الاستباقية.

ومن وجهة نظرى كمتخصص أقول: من حيث التلوث الإشعاعى الناتج من استخدام سلاح نووى أيا كانت قوته التدميرية، فلا يوجد فرق بين قنبلة نووية استراتيجية وقنبلة نووية تكتيكية. ذلك أن المناطق التى ستستخدم فيها هذه الأسلحة ستصبح ملوثة بالمواد المشعة، وتصبح غير صالحة للحياة، فسوف تدمر الإنسان والنبات والحيوان ومكونات البيئة الطبيعية.

إن نزع السلاح النووى هو أفضل وسيلة للوقاية من هذه الأخطار. فهذا الشئ المخيف والمرعب يقتل الأمل بداخلنا، والذى كنا من خلاله نأمل أن تسود حالة سلام ومحبة دائمة بين شعوب العالم المختلفة. والأسلحة النووية التكتيكية تعتبر التفافاً حول عدم تنفيذ التزامات معاهدات خفض الأسلحة النووية الاستراتيجية الموقعة بين واشنطن وموسكو. ونحن نحذر من سباق جديد للتسلح النووى على مستوى القنابل النووية التكتيكية. إن استخدام القنابل النووية التكتيكية فى المعارك الحربية سوف يؤدى إلى سباق تسلح يشمل دول العالم أجمع، ويصبح حقا من حقوق دول العالم امتلاك هذه الأسلحة.

وفقنا الله إلى ما فيه الخير للشعوب والإنسانية ، والله الموفق.

 

 

اترك رد