مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

الدكتور بكر العشري الذي فقدته الجامعة

13

الدكتور بكر العشري الذي فقدته الجامعة
بقلم د/ محمد طه عصر

في ثمانينات القرن الماضي كان -طيب الله بالرضوان ثراه- ضمن نفر من الايفاع يتنقلون بين حلق اللغة بالقاهرة كما يتنقل النحل بين الزهر لا يتذوق غير الشهد ولا يتنسم غير الرحيق ٠

كان يومئذ فتي غرانقا ، منضور الخلقة ،وثيق التركيب مربوع القامة، أوتي بسطة في العلم والجسم تخاله لقوته مصارعا لكمته في كلمته٠

احب الحضارة الإسلامية ووجد فيها كفاية لعقله الرغيب ورضا لنفسه الطامحة فتخصص فيها وأحلها من نفسه محل الغرض من السعي والغاية من الحياة ومع ان التاريخ الإسلامي شغفه وأشرب في قلبه الا أن فيه الغث والسمين فما كان سمينا نتجرعه ونسيغه وما كان غثا نركمه جميعا ونصنع به ما صنعه عثمان بكل مصحف غير مصحفه ٠

قد يهمك ايضاً:

تحليل سوات والحياة اليومية للمواطن

انور ابو الخير يكتب: لا شيء يستحق الحداد

لم يكن الدكتور بكر العشري مجرد أستاذ للتاريخ والحضارة في كلية اللغة بالمنصورة ولكنه كان أستاذا في مدرسة جعلت الحضارة عقيدة للعامة والتاريخ فكرا للخاصة ولم يكن في دراسته أو تدريسه مجرد وراق يتسلل من السقوف الي الرفوف ثم يتدلي في المماشي ليتسول في الهوامش ويتسوق في الحواشي ولكنه كان غواصا ماهرا يضرب في الأعماق بيديه القويتين ليستخرج كوامن الدر من كوامن الصدف فكان اقرب الي أساتذة الأزهر أيام كان جامعا وقبل ان يصير جامعة وليس الذكر كالأنثى ولم يكن في استاذيته من الذين بلغت بهم الانانية حد التضخم فرفعوا علي الجميع عصا القطيع فاذا دخلوا علي تلامذتهم كبكبوا ثم نهضوا وتداخلوا في بعضهم كما تتداخل أعواد القش اذا لفحتها العاصفة وبهذا ران علي قلوبهم فلم يعملوا حسابا ليوم تنتهي مهمتهم ويسحب البساط من تحتهم فيقعد عنهم الواقف وينصرف العاكف ويتعاقب علي كرسيهم خالف بعد خالف وقد تصيبهم وعكة ولا ينهض تلامذتهم للسؤال عنهم ملاطفين أو مؤاسين أو باخعي أنفسهم كأنما بات السؤال عن الناس كسؤال الناس٠

ولم يكن رحمه الله في شيء من هذا بل كان يتعامل بشفافية تنفي الخبث عن ضميره والكيد من تقريره ويود لو يخرس اللوائح اذا استصرخه الكظيم أو استغاث به الهضيم وكان في علاقته بمحيطه العلمي كالعاطفة الرقيقة تتماس في رفق وتنفرج في سهولة وكثيرا ما يقابل المن والأذي بالمن والسلوي وينفح بالعطر حتي أنوف قاطفيه، وكان في علاقته بمحيطه الاجتماعي مثقوب الجيب والكف حتي ولو كان به خصاصة يرفرف بجناحيه علي شقاء ذوي العيلة من الغارمين والمكروبين الذين يؤثرون ان يعملوا ثلثي النهار وزلفا من الليل علي ان يسألوا الناس الحافا ليستدروا الأكف بالسؤال ويستجدوا الجيوب بالسرقة ٠

كان عقلا حصيفا ولسانا نظيفا وقلبا عفيفا وروحا شفافة كالزجاجة تنم علي ما فيها فعلي لسانه جنانه وفي وجهه ترجمانه تسمعه فكأنك تقرأ من قلب مفتوح ،وتعاود الجلوس اليه فلا تجد الا طلاقة الحديث وتشاجنه وتشققه الي شؤون الأدب والسياسة والتاريخ والدين وبدهي انه لم يكن ليذكو ذكاة الكلمة الطيبة إلا اذا ارتوت ارومته بشرف البيئة الحسنة وفضيلة التدين الصحيح وتغذت بذوره وجذوره بالغذاء المريء والشراب الهنئ والكساء الوضئ والمركب الوطيء والفطرة النقية والنفس الرضية والعين القانعة التي لا تمتلئ من شيء غيرها ولا تمتد الي ما يتمتع به سواها لذا كان تمكنه في القلوب عن قناعة العقل والروح لا عن جهارة الصوت وارتفاع السوط، ثم تعاقبت أمواج السنين علي شاطئ الحياة وهو محمول علي عواديها الرعن يحمل بعضه مع الرمل وبعضه مع الزبد والداء العياء يتحرك به حركة الطاحونة البطيئة حتي لم يبق فيه الا أنة شجية كأنة المحتضر لا تبين ودمعة عصية كدمعة أبي فراس لاتهمي٠

بالأمس وقبيل رحيله أطل من النافذة فاذا رياح الخريف تنوح علي عذبات الشجر والأفق معتكر قريح جفنه والشمس صفراء عاصبة الجبين والغمائم الرقاق تتجمع غبرا كخمل النعام ثم تتفرق بيضا كلفائف الأكفان والأصيل يدفع بهلاهل النور علي ناصية الغروب فأدرك ان الطبيب أمرضه وأنه للجاهد ان يستريح وللناصب أن يستجم وللمسافر أن يلقي عصا التسيار وللسفينة أن تستوي علي الجودي عندئذ توضأ وأجري القرآن علي قلبه وأمسك لسانه الا عن الكلمتين الثقيلتين في الميزان ثم اخذته سنة طالت فصارت اغفاءة انفلت منها الي الأخرة كما تنفلت القطرة من المطرة لتصعد روحه الي حيث يصعد الكلم الطيب وكان وداعه وعزاؤه مظاهرة تكريم أرهفت الشعور العلمي بدموع طلابه وأصدقائه وزملائه الذين زاملوه نصف عمره وخالصهم الصداقة والزمالة وقد نفروا ثبات وجميعا ليشيعوه بما بقي في مآقيهم من عبرات يسكبونها علي ثراه وما حملوه في أيديهم من زهور ينثرونها علي قبره طيب الله بالرضوان ثراه.

كان حتي أخريات أيامه دنيا من العلم والأدب في جسد أضناه العمل والدأب فكان كالشمس ساعة الأصيل ترسل بأشعتها الوانية وهي توشك علي الغروب فاذا جزعت النفوس لفقده فلأنه كان رسول مودة في زمن عزت فيه المودة ونحن اذ نكتب عنه فإنما نندب غصنا ذوي ونجما هوي وقطبا ثوي ونفسا أمنة مطمئنة غفت في ظلال الخلد ولكنها لم تمت.

اترك رد