مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

الدكتورة سهير صفوت تكتب عن المسئولية الفردية والحساب أمام الله وأمام المجتمع

1

المسئولية الفردية كمدخل لإصلاح المجتمع

                                                   بقلم/ د. سهير صفوت

                 أستاذ علم الاجتماع المساعد- كلية التربية – جامعة عين شمس

        إن تأمل تفاعلات الحياة اليومية للبشر يكشف عن تفاعلات سلبية تتسم بالضعف في النفوس والابتعاد عن الدين ، والتمسك بشكله دون جوهره ، وتفككاً يعتري المجتمع ونسقه القيمي. فقد تغلبت قيم الأنانية على قيم الإيثارية ، وسيادة السلبية واللامبالاة والتي ورثت النفوس استكانة يتناقلها الأجيال جيلاً تلو الآخر. هذا فضلاً عن إصابة المجتمع بقيم مادية عصفت بالروحانيات وغمست الإنسان في ممارسات غريزية كالاستهلاك أو الجنس الحرام والانحرافات بأشكالها المتعددة.

ويؤدي ما سبق في جملته إلى تفاعل اجتماعي فاسد ينشر الفساد ، وهو ما يثير تساؤلاً ملحاً قد يسأله شخص ما لآخر أو يسأله الشخص لذاته وقد نتداول السؤال جميعاً ، ماذا نفعل؟ كيف نقضي على هذا الفساد؟ ما هي نقطة البدء؟ هل نصلح الفرد فينصلح المجتمع أم نصلح المجتمع فينعكس هذا الاصلاح على الفرد ورفاهيته؟

ومن المؤكد أن إجابة هذه التساؤلات تكمن في قاعدة إسلامية تقول: ((غير نفسك يتغير العالم)) وهي تنطلق من قوله تعالى: ((إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)) الرعد 11.

فإصلاح المجتمع يبدأ من إصلاح النفس البشرية، والفرد هو محور هذا الكون ، وبما أنه محوره فهو مسئولاً عن إدارته ، ومن هذا المبدأ تنطلق المسئولية الفردية، فكل فرد مسئول عن أعماله مسئولية تامة ، وسوف يُحاسب على كل إساءة في تفعيل مسئوليته ، كما أنه سوف يحاسب على كفاءة استخدامه لها ، وما دام الحساب يقوم على أساس شخصي فإن “الممارسة الشخصية” في الحياة الدنيا تبقى حاسمة ، ذلك لأن الحساب الشخصي يفترض أن الشخص مسئول عن عمله. ومسئولية الفرد تتفاوت حسب موقعه وأهميته وخبرته وعلمه ، والكل يجمعه هدفاً واحداً هو العمران الذي استخلف من أجله الانسان والذي باستخلافه يمثل النواة الصلبة لتأسيس المجتمع.

وإذا كان الإنسان خليفة الله في أرضه ، وإذا كان الله قد خلق الكون للإنسان ليمارس فيه نشاطاته المادية والروحية، فعلى هذا الإنسان أن يقف من هذا الكون موقفاً إيجابياً متعاوناً مع الآخرين في بناء مجتمعه وعمرانه.

وتتأسس هذه الايجابية بدايةً من خلال الأسرة والتي تمثل حجر الزاوية في بناء الفرد وشخصيته ، وهي الأساس الأول الذي يتغذى فيه الفرد ويتشرب لقيم مجتمعه وعاداته ويبدأ من غرس المسئولية الفردية بتدريب الأسرة لأطفالها على المبادرة في تحمل مسئوليتهم تجاه أنفسهم بأنفسهم وتبدأ في ذلك بالأمور الصغيرة المحدودة إلى أن تمضي إلى ما هو أكبر وأعقد وهي تقصد من ذلك أن يشب الطفل ويكبر وهو قادر على تحمل المسئولية ولا يلجأ إلى الآخرين لمساعدته في تولي هذه المسئولية عنه باعتبارها من خصوصياته وشأنه لوحده ، وتمضي الأسرة إلى إسناد أبنائها مسئوليات أخرى تجاه الآخرين ، وتؤكد عليهم اتقان القيام بها “فكلكم راع ومسئول عن رعيته ” لذا، فإن تنمية المسئولية تشكل ركناً أساسياً في تنشئة الأبناء وإعدادهم.

وتنمية المسئولية الفردية لن يكتب لها النجاح إلا من خلال توافر القدوة الصالحة بين الأجيال والتي يؤسس لها من خلال الأباء ، وتستكملها المعاهد التعليمية من خلال الأنشطة ، والالتزامات التي تعود الطلاب عليها، فتعودهم الاعتماد على أنفسهم.

ولا تنقطع المواقف التربوية التي تخلق الاتجاهات الايجابية عند الناشئة تجاه المسئولية شعوراً وقدرة ، وكذلك استعداداً ورغبة وحماساً.

نقول: تبدأ تنمية المسئولية في دائرة الذات وتتسع لتمثل المجتمع بأسره بحيث تصبح واجباً يحس الإنسان بأن عليه فرضاً ينبغي تأديته ، وهنا تُفعل المسئولية الفردية كقناعة أخلاقية تم استنباتها بداخل الفرد بحيث أنها صارت إلزاماً عليه .. فنقطة البدء في تنمية ذاته تنطلق من تعاقد الفرد مع الآخرين على التفاعل الايجابي بحيث يتكون من خلال هذا التعاقد بناء نسق من التوقعات من جانب كل فرد تجاه الآخر.. هذا النسق الذي يجعل الآخرين يتوقعون سلوك فرد ما أثناء أدائه لدور معين ، ولا يأخذ التعاقد بين الأفراد شكلاً كتابياً بل هو يتناقل شفهياً من الأب إلى الابن ، وينشأ عليه الفرد منذ صغره ويصبح هذا التعاقد بمثابة ميثاقاً ملزماً لكل فرد في المجتمع.

ويشكل الميثاق القائم بين ضمير الإنسان ومجتمعه ما يمكن أن نطلق عليه “الضمير الخلقي” الذي يدفع المرء إلى الإقرار في كل لحظة بما ينبغي أن يفعل وماذا عساه أن يترك تجنباً للمساءلة أو مخافة تعرضه لجزاءات من قبل مجتمعه.

إنه تعهد بقبول عملية الالتزام وبأنه يتحمل المسئولية عن طواعية واقتناع، إذ أن المسئولية معادلة لا تصح إلا بتوافر طرفاه: ( الحرية والإلزام)، وهو ما يعرف في الشريعة الإسلامية بـ «التكليف».

قد يهمك ايضاً:

” العسومي” يثمن مواقف روسيا الداعمة للقضية…

لقد سمى القرآن هذه «المسئولية» أمانة، باعتبارها قاعدة أساسية لكل أنواع المسئوليات وللقيم المطلوبة لذاتها في جميع التصرفات ، ولا يمكن الإخلال بها أو التملص منها إلا بضرب من ضروب الخيانة والاستسلام.

وبالوقوف على الآية القرآنية التي تحدد ما يحمله الإنسان من مسئولية عُبر عنها بـ«الأمانة» على سبيل القبول والعرض، قوله تعالى: ((إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً)) الأحزاب 172 ، وبتأمل هذه الآية الكريمة يتضح لنا أن المسئولية الفردية تقترن في تحقيقها بتحقيق ثلاثة شروط . الأول ؛ الحرية الانسانية حيث عُرضت الأمانة عرضاً لا فرضاً وهو ما يعني التدخل الإرادي من قبل الانسان، إذ بانتفاء الحرية ينتفي الجزاء لأنه كيف يعاقب المرء على ما هو مجبور عليه؟ ويستكمل القرآن عناصر المسئولية بقوله تعالى: ((وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه)) الاسراء 13 .

وهنا يتحقق الشرط الثاني وهو الإلزام الذي يعتبر النواة الصلبة للمسئولية وبه يتشكل الضمير الخلقي للفرد.

ويتحدد الشرط الثالث في الجزاء والذي يبدو في قوله تعالى: ((احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون)) الصافات 22 ، 24.

فالجزاء يترتب على الفعل وهو مرتبط بالإلزام من حيث أن الطرف الملزم هو الذي يحاسب الطرف المسئول.

وإذا كانت الأمانة هي جوهر المسئولية الفردية وقاعدة تأسيس النسق الأخلاقي والقيمي ، فإن جميع مسئوليات الفرد تنطلق من قاعدة واحدة هي: «الأمانة» ، والأمانة كلمة واسعة المفهوم يدخل فيها أنواع كثيرة ، فمن هذه الأنواع: الأمانة العظمى وهي الدين والتمسك به وعبادة الله وحده دون إشراك أحد في عبوديته ، لأن تنقية التوحيد وتحرير العبودية هو الذي يحقق السعادة للإنسان ويرفع عنه الآصار والأغلال ويمنحه الأمن النفسي تجاه مسألتي الرزق والأجل، وبذلك ينعتق من كل العبوديات الأرضية مهما كان نوعها ويتمتع بالحرية والارادة ؛ يقول شيخ الإسلام بن تيمية حينما يتحدث عن العبودية لغير الله وآثارها على صاحبها: ((وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم ، فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عما يجترحونه ليطيعوه ويعينوه ، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع)).

والتحقيق أن العبودية لله تُحرر العبد من الخوف الذي يجعله يخشى لومة لائم في الحق، وهو ما يعد مدخلاً لإصلاح المجتمع وما يعتريه من فساد ناتج عن الخوف على الرزق أو على الأجل.

ويتسع المفهوم ليشمل المال والعمل ، والزوجة والأولاد، وكل عمل يوكل به الإنسان في علاقته مع الآخر يعد أمانة لذا يحاسب عليها الفرد إذا ضيعها وأفسدها.

ولكي تأتي المسئولية الفردية ثمارها فلابد أن تتأسس على علاقة متزنة بين الفرد والجماعة قوامها العلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع، والوعي بضرورة المجموع وأهميته في حياة الفرد ، وضوابط العمل معه وواجباته تجاه ذلك المجموع وحقوقه في ظل وجوده مع المجموع فإن هذا الفهم يجعله حريصاً على لزومه وعدم التخلي عنه ، وهو يحمله على الالتزام بضوابط العمل وبذل أقصى ما في وسعه لاستمرار المجتمع.

يقول ابن خلدون في حديثه عن تفاعل الإنسان الايجابي وتعاونه في بناء الكون: ((فلابد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه ، وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء ولا تتم حياته لما ركبه الله عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته ، ولا يحصل له أيضاً دفاعاً عن نفسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات ويصبه الهلاك)).

فمسئولية الإنسان الفردية تنطلق من مبدأ التعاون مع الآخرين في إحياء الكون وإعماره.

ومن ناحية أخرى يجب أن يفهم المجموع منزلة ومكانة الفرد فيه وحقوق الفرد وأثر تمكينه من هذه الحقوق، وعلى الجماعة رعاية الفرد ومنحه حقوقه وتذليل العقبات التي تقف في طريق تقدمه ، فكيف نطلب من الفرد أن ينتمي إلى مجتمعه ويكون مسئولاً عنه والمجتمع يغفل حقوقه ويطالبه بواجبات؟ فالمسئولية الفردية تنطلق من الاعتراف بأهمية الفرد واشباع حاجاته مما يدفعه إلى الانتماء إلى مجتمعه والدفاع عنه.

والتساؤل الذي يفرض نفسه: كيف نحقق التفاعل الايجابي بين الفرد والمجموع والذي بدوره يصنع الانتماء ويربي الذات المسئولة؟

إن الاجابة تكمن في أمرين، الأمر الأول يتمثل في تحقيق وحدة شعورية بين الفرد والمجتمع.. هذه الوحدة الشعورية التي تتحقق بربط الفرد بإطاره الثقافي لما لهذا الاطار من مقومات تسهم في تشكيل المنظومة الفكرية والثقافية التي تعبر عن خصوصية ثقافية لها من العادات والتقاليد والقيم التي تشكل هويته وتصبح بمثابة البوتقة التي يتم فيها الانصهار الاجتماعي وتُرسي فيها قواعد الحقوق والواجبات.

والأمر الثاني يتمثل في المشاركة الفعالة التي تبدأ بإشعار الفرد بأهميته وتبليغه دوره الاجتماعي وإدخاله في عملية التخطيط للعمل الجماعي من أجل المجتمع ، وفي توزيع الأدوار التنفيذية وفي كل دور يُسند إلى الفرد يوضع في وضعية المتدرب والممارس للمسئولية ، حيث ينطلق الفرد في عمله من استشعاره للمسئولية الأخلاقية والاجتماعية تجاه مجتمعه والتي تتبلور في قاعدة أساسية تتمثل في: ((إن نجاح مجتمعه أو فشله يستند إلى إيجابيته والتي يعبر عنها سلوكياً بإتقان العمل والتفاعل مع الآخر وبذلك يتحقق العمران وينصلح المجتمع)).

اترك رد